يناير/كانون الثاني هذا العام ليس يوما عاديا في تونس فلأول مرة لم يعد تاريخ مغادرة الرئيس الراحل بن علي البلاد قبل 11 عاما، هو عيد الثورة بعد أن عنّ للرئيس قيس سعيّد، منفردا، تغييره إلى 17 ديسمبر /كانون الأول اليوم الذي أشعل فيه محمد البوعزيزي نفسه. هو ليس عاديا كذلك، لأنه يوم دعت فيه قوى سياسية مختلفة إلى التظاهر احتجاجا على انقلاب قيس سعيّد على الدستور واحتكاره السلطتين التنفيذية والتشريعية ومتحرشا بالقضائية.
تونس الجمعة أمام موعد هام للغاية، أكبر بكثير من مجرد النزول إلى الشارع والتعبير عن موقف سياسي معين، إنها في الحقيقة أمام احتمالين أو اختيارين اثنين:
الأول :أن تكون هذه المظاهرات محدودة، سواء بالمعنى العددي أو بمعنى اقتصارها على حركة «مواطنون ضد الانقلاب» وأنصار الأحزاب السياسية التي دعت إليها فتبدو المعارضة لقيس سعيّد محصورة في هؤلاء، وربما في حركة «النهضة »بشكل خاص فيتم وقتها تصويرها، بسهولة واستسهال، بأنها مظاهرات ليست نصرة الدستور وضد الاستبداد، وإنما لأن سعيّد قلب الطاولة على من يقف وراءها فأخرجهم من الحكم، بل ويعتزم إخراجهم من الحلبة السياسية ومن الحلبة الوطنية أصلا عبر تكرار الاتهامات لهم بالخيانة والعمالة.
الثاني: أن تشارك إلى جانب من سبق، القوى النقابية والمهنية والمدنية حتى تكون الرسالة واضحة وتتعلق بمستقبل الوطن كله: هل يريد الاقلاع النهائي نحو الديمقراطية ودولة القانون، أم إنه راض بالهبوط الاضطراري على مدرج الاستبداد والحكم الفردي الذي أجبرهم عليه سعيّد.
لو مضى الأمر كذلك، فيفترض أن يشارك في مظاهرات الجمعة «الاتحاد العام التونسي للشغل» وقد استهزأ به سعيّد أكثر من مرة دون أن يحرّك ساكنا، في حين أن نفس الاتحاد لم يترك في السنوات الماضية قطاعا إلا وشنّ فيه الإضراب تلو الإضراب لكنه الآن يبدو مستسلما مع أن الحكومة منعت الاتصال بأي من هياكله دون إذن منها في سابقة لم تعرفها تونس من قبل أبدا.
يفترض كذلك، أن تشارك «رابطة حقوق الإنسان» هذه المنظمة العريقة التي تأسست زمن حكم الحبيب بورقيبة ولم تهادنه، ولا هي هادنت خلفه زين العابدين بن علي، لكن الإيديولوجية أقعدتها اليوم عن جوهر مهمتها رغم اتساع رقعة الانتهاكات الجسيمة.
يفترض كذلك، أن يشارك القضاة بزيهم الرسمي دفاعا عن استقلالية هذه السلطة الثالثة التي يريد سعيّد أن يقزّمها بتصويرها مجرد وظيفة ليس إلا. صحيح أن هؤلاء القضاة مدعوون للنظر في قطاعهم وتخليصه من كل فساد أو انحراف لكنهم في ذلك ليسوا الوحيدين فكل قطاع في تونس يحتاج إلى مراجعة شاملة بعدما نخرته العلل طوال عقود. شيطنة القضاة وتشويههم هو بعض الحق الذي يراد به كل الباطل.
يفترض كذلك، أن يشارك المحامون بزيّهم الأسود أيضا وقد حدث لزميلهم نورالدين البحيري ما ينذر بكل الشرور، وعلى يد مسؤول وزارة الداخلية وهو زميل لهم اختار الضفة الأخرى. وإن لم يتحرك هؤلاء لاعتبار سياسي غلب المهني فسيأتي اليوم الذي يتعرض فيه محام يساري أو قومي أو مهما كان لونه السياسي فلن يجد من يقف معه لأنه هو نفسه سبق أن تخاذل عن دعم زميل له من قبل لا لشيء سوى لأنه إسلامي.
يفترض كذلك، أن يشارك أيضا الصحافيون ونقابتهم، بعد أن ازدادت مضايقتهم، ومعهم أيضا مختلف منظمات المجتمع المدني المعنية بالحكم الرشيد والشفافية ومحاربة الفساد فكل هذه المنظمات لن تجد هواء نقيا تتنفسه إذا ساد الاستبداد وخنق الجميع في مناخ لا صوت يعلو فيه سوى صوت الزعيم الملهم وحوارييه مهما انكشف تهافت ما يقولونه وضحالته.
الاحتمال الأول سيجعل سعيّد يمضي في خططه لا يعبأ بأحد فقد استخف بقومه فأطاعوه، أما الاحتمال الثاني فسيوجه رسالة قوية له مفادها أن عليه أن يتوقف ويراجع حساباته، وفي نفس الوقت رسالة قوية للعالم كذلك مفادها أن إصرار التونسيين على الديمقراطية ليس أقل من إصرار السودانيين دون الحاجة إلى إسالة الدماء في الشوارع.
معركة الديمقراطية كل لا يتجزأ وهي لا تعني السياسيين دون غيرهم، ناهيك عن لون سياسي دون آخر. نسائم دولة القانون يستفيد منها الجميع وينتعش أما أجواء الاختناق فلن ينجو منها أحد. واهم من يظن أنه ليس معنيا بما يجري الآن في تونس فقد يكون الأمر كذلك اليوم لكن الدور آتيه لا محالة ولا فائدة في استعراض الأمثلة في تونس وغيرها.
هزيمة الانقلاب في تونس لا تعني العودة الحرفية إلى المشهد الذي كان سائدا قبله، بل تعني العودة إلى سكة الشرعية عبر حوار بين الجميع للبحث عما يمكن إصلاحه في النظام السياسي والقانون الانتخابي بما يجنب البلاد أي انحراف في المستقبل. لا مخرج إلا هذا فهو الكفيل بتجنيب البلاد ويلات الصدام والفوضى خاصة عندما تشتد أكثر الضائقة الاقتصادية.. فهل يفهم قيس سعيّد ذلك..وهل يفهمه التونسيون قبل أن يغرق المركب بالجميع؟