دعونا لا نضيّع وقتا كثيرا في الحديث عن مدى شرعية الاستفتاء عن دستور جديد لتونس أمس الأول، ولا عن مدى مصداقية نسبة المشاركة فيه، خاصة وأن هذا الاستفتاء الذي جاء في سياق مثير للجدل هو استفتاء غريب الأطوار فعلا وغير معهود في العالم كله، فهو لا يشترط عتبة مشاركة دنيا للناخبين لاعتباره مقبولا، ولا نسبة دنيا للإعلان عن فوز (نعم)، ولا تصورا واضحا للمآل إذا كانت النتيجة هي (لا).
لندخل مباشرة في جوهر القضية: هل ستتغيّر أوضاع تونس والتونسيين بعد هذا الاستفتاء؟ نعم أم لا؟ لأن كل ما عدا ذلك زخرف كلام أو حشو حديث لا يسمن ولا يغني من جوع. هل سيغيّر الاستفتاء والدستور الجديد الذي جاء به اقتصاد تونس ومعيشة أهلها نحو الأفضل؟ والجواب هو لا.
سيستمر اقتصاد البلاد يئن تحت اختلالات قديمة وجديدة نتيجة سنوات من الخيارات المرتجلة التي نفّرت المستثمر المحلي والأجنبي، في ظل تراجع روح الكد والعمل وتردي الخدمات المختلفة واستشراء الفساد والتفاوت بين مناطق البلاد وارتفاع مخيف في معدّلات هجرة الكفاءات إلى الخارج، وخاصة في اختصاصات علمية هامة، وتورّم القطاع العام وتصاعد التضخم وارتفاع الأسعار ومعدّلات البطالة، مع تدحرج مستمر للعملة الوطنية ودين خارجي يناهز 40 مليار دولار.
يجري كل ذلك وتونس تنتظر أن تدخل أخيرا في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بعد انتهاء المحادثات التمهيدية، للحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار، تعهّدت مقابله الحكومة بجملة «إصلاحات» لم تشاور فيها أحدا بما في ذلك «الاتحاد العام التونسي للشغل» الذي يرفضها لتضمنها إجراءات مؤلمة منها رفع الدعم عن المواد الغذائية والمحروقات وتجميد الأجور والتفويت في بعض شركات القطاع العام، وكلها ذو تكلفة اجتماعية باهظة لقطاعات واسعة تئن تحت وطأة الوضع الحالي فما بالك بما هو آت.
هل سيغيّر الاستفتاء والدستور الجديد الذي جاء به من حالة الانقسام السياسي الحاد والخطير في البلاد؟ والجواب هو لا.
ستستمر وتتعمّق أزمة شرعية الحكم منذ أن استفرد قيس سعيّد قبل عام بكل السلطات ملغيا كل الهيئات الدستورية. ها هي «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة المشكلة من مجموعة أحزاب وقوى مدنية مختلفة تشكّك منذ الآن بالأرقام المعلنة وتتهم هيئة الانتخابات بالتزوير وترى أن حتى هذه الأرقام تعني أن 75 في المئة من الناخبين لم يدلوا بأصواتهم مما يفقد الدستور الجديد صفة العقد الاجتماعي الذي يقبل به الجميع ويحتكم إليه الجميع.
إن تمسّك المعارضة بدستور 2014 ورفضها للدستور الجديد ومطالبتها أمس الثلاثاء بتنحي الرئيس والدعوة إلى انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة، مقابل إصرار سعيّد على المضي قدما وتغيير القانون الانتخابي تمهيدا لانتخابات تشريعية فقط تجري أواخر هذا العام بنظام التصويت على الأفراد وليس الأحزاب، كل ذلك لا يمكن أن ينبئ سوى بتصاعد حدة الجدل السياسي في البلاد المعيق طبعا لأي استقرار اجتماعي يمكن أن يكون مدخلا لتحسن المناخ الاقتصادي المأزوم.
ومع احتفال سعيّد أنصاره بالاستفتاء ونتيجته ومعارضة خصومه لكليهما ستتسع أكثر فأكثر الثغرة الاجتماعية والسياسية القائمة في تونس منذ عام والتي وصلت بأحد أنصار الرئيس ممن يتصدّرون الدفاع عنه في البرامج التلفزيونية إلى الدعوة إلى التثبت من أصابع الموظفين العائدين إلى عملهم بعد الاستفتاء فمن لم يكن بأصابعهم أثر لحبر التصويت فأولئك هم المقاطعون الذين تجب محاسبتهم و«تطهير» الإدارة منهم! هذا الخطاب المخيف يلتقي مع خطاب سعيّد الذي لم يتراجع قط عن تهم الخيانة والتآمر ضد كل معارضيه، حتى وصل به الأمر أن يخرق الصمت الانتخابي يوم التصويت ويتحدث عن «خونة باعوا البلاد» اتهمهم بتوزيع الأموال على الناخبين لكنه لم يتحدث سوى عن شخص واحد وعن مبلغ لا يتجاوز ألف دولار وهو تصريح يمكن أن يأتي على لسان رئيس مخفر شرطة في حي لا رئيس دولة.
لكل ما سبق، لا ينتظر شيء على الإطلاق من استفتاء الاثنين ولا من الدستور الذي سيتمخّض عنه، بل الأرجح أن يزداد الوضع الاقتصادي سوءا في بلد مهدد بالعجز عن سداد ديونه، كما أن التمزق السياسي وصراع الشرعية لن يشجعا المستثمرين الأجانب ولا الدول المانحة على أية مبادرات، فيما ستتواصل على الأرجح عزلة تونس الدولية بما يمكن أن تؤدي مثلا إلى إلغاء قمة الدول الفرنكوفونية المقررة مبدئيا في جزيرة جربة في نوفمبر / تشرين الثاني المقبل بعد أن سبق أن تأجلت لعدم ملائمة المناخ السياسي بالبلاد.
معروف تماما ما الذي يمكن أن يحصل في أي بلد تزداد أوضاعه الاقتصادية صعوبة بالتوازي مع شرخ سياسي يزداد عمقا في ظل غياب كامل للحوار بين الأطراف المتصارعة وتصاعد منسوب القطيعة والكراهية بينها.
الهروب إلى الأمام مستنكر في كل الأحوال لكنه يصبح كذلك على قدر كبير من الغباء حين ترى الجميع يصرخ بأن جُبّا عميقا لا يبعد عن الهارب كثيرا.!!