في انتظار مظاهرة السبت المقبل في تونس التي دعت إليها «جبهة الخلاص الوطني» للتنديد بكل سياسات وتوجّهات الرئيس قيس سعيّد صدر في اليومين الماضيين بيانان يجدر التوقف عندهما: الأول من جهة تقفز من مركب سعيّد قبل أن يغرق والثاني من جهة متمسكة به رغم كل ثقوبه المتعددة.
آخر القافزين من هذا المركب ائتلاف يُسمى «صمود» ويضم مجموعة من الأساتذة والخبراء من بينهم حتى من كان من الدائرة الضيّقة حوله ممن زيّنت له انقلابه على الدستور فقد أعلنوا في بيانهم «التخلي عن كلّ أشكال المساندة لمسار 25 تموز/ يوليو» 2021 (تاريخ الإعلان عما سُمّي بالإجراءات الاستثنائية وتجميد البرلمان وحل الحكومة).
هذا الائتلاف، الذي سبق أن أيّد ما أقدم عليه سعيّد قبل أكثر من عام لكنه لم يتردّد في معارضة بعض خطواته بشكل تصاعدي إلى أن وصل إلى هذه القطيعة، أرجع قرار القطيعة هذا إلى «حياد رئيس الجمهورية عن مطالب هذا المسار وفرضه قرارات بشكل أحادي، لتركيز نظام سياسي رئاسوي هجين»، داعيا في الوقت نفسه إلى مقاطعة الانتخابات التشريعية المقررة في 17 كانون الأول/ ديسمبر، «ترشّحا وتزكية وانتخابا» معتبرا أن «القانون الانتخابي الجديد سيفرض انتخابات تشريعية غير قانونية، وسينبثق عنها مجلس غير شرعي».
ومضى بيان هؤلاء الذين كان يأملون من الرئيس غير ما سار عليه إلى القول إن هذا الأخير «مُصر على فرض رؤية أحاديّة تهدف إلى تنفيذ مشروعه السّياسي المسقط على مراحل، بتركيز برلمان مذيّل للسّلطة التنفيذيّة، إلى جانب السعي إلى التّضييق على المعارضين والصّحافيّين وترهيبهم بضرب الحريّات العامّة وبالأخصّ حريّة التنظّم والتّعبير».
لم يكتف إئتلاف «صمود» بذلك بل عبّر كذلك عن «مساندته ودعمه لكل التحركات السلمية الرّافضة لعودة منظومة حكم الإسلام السياسي» في البلاد، ومن ناحية أخرى عن «إلزامية التصدي للمشروع السّياسي الأحادي، الذي يسعى الرّئيس لفرضه على التونسيات والتونسيين» داعيا منظمات المجتمع المدني والسياسي والأحزاب والقوى الوطنية والديمقراطية «للتنسيق الحثيث والجدي من أجل إنقاذ الانتقال الديمقراطي، بتنظيم سلسلة من التحركات السلمية في كافة الجهات».
مقابل «عودة الوعي» هذه، التي للإنصاف لم تأت فجأة وإنما تدريجيا مع كل خطوة كان يقطعها سعيّد في الاتجاه الخطأ، برز في نفس الوقت تقريبا بيان آخر يعبّر فيه أصحابه عن مضيّهم قدما في دعم سعيّد اللامشروط رغم كل ما حدث وما قد يحدث.
البيان أطلق مبادرة سمّاها أصحابها «لينتصر الشعب» فجاءت تعبيرا عن تلك الشرائح السياسية والاجتماعية والنقابية ممّن لا ترى أي مستقبل لها إلا مع سعيّد على أمل أن يكون لها موطئ قدم في «الجمهورية الجديدة» التي يقول إنه بصدد بنائها.
البيان الذي حمل 25 توقيعا، ويبدو أنه سيظل مفتوحا لغيرها، تضمّن على سبيل المثال عميد المحامين السابق أحد أبرز مؤيدي سعيّد بلا تحفظ ومعه بعض من يوصفون بـ«المفسّرين» و«المقرّبين» من الدائرة الضيّقة حول الرئيس، إلى جانب رموز من «حركة الشعب» و«التيار الشعبي»، الحركتين اليسارية والقومية الوحيدتين تقريبا من بين كل الأحزاب السياسية في البلاد اللتين ظلتا على ولاء مطلق ومفتوح لما جرى من انقلاب على الدستور، مع بعض الأمناء العامين السابقين للمركزية النقابية الكبرى»الاتحاد العام التونسي للشغل».
وفي لغة هي أقرب ما تكون للغة الرئيس الانشائية والمبهمة قدّم هؤلاء مبادرتهم على أنها تأتي في«إطار وطني شعبي كفاحي أفقي ومفتوح لعموم الشعب التونسي ولكل قواه المتنوعة المؤمنة بعمق مسار 17 ديسمبر ـ 25 جويلية والقاطعة كليا مع منظومة ما قبل 2010 وما قبل 2021 »، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن تاريخ تونس لم يبدأ إلا مع قيس سعيّد، حيث تم باستسهال غريب شطب كل ما سبق من تاريخ البلاد. أما الهدف فهو «إنجاز التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمضي في بناء الجمهورية الجديدة ودعم وتوحيد وتقريب كل مناضلات ومناضلي هذا الخط الوطني السيادي» في اقتباس لثنائية «الوطنيين» و«الخونة» التي يرددها سعيّد باستمرار.
الواضح كذلك أن أصحاب هذه المبادرة، والجهات الواقفة وراءها، يضعون نصب أعينهم حاليا الانتخابات التشريعية المقبلة ويبحثون لهم عن مكان في البرلمان المقبل في ظل مقاطعة كل الأحزاب لهذه الانتخابات وذلك حين يشيرون في تلميع لما قاموا به بأن مبادرتهم «ليست مجرد أداة انتخابية بل انصهار نضالي على أساس مهمة مرحلية بالغة الأهمية ووحدة مصير مع عموم أبناء الشعب لمواجهة تحديات 17 ديسمبر 2022 وما بعدها وتعبير مكثف عن مشروع وطني متكامل في شتى المجالات»، فضلا عما ورد في البيان من لغة شعبوية عن الخيارات الاقتصادية والتمسك بالسيادة في وجه القوى الدولية.
لم يبق أحد تقريبا من القوى السياسية في قارب سعيّد فالكل نجا بجلده مبكّرا أو متأخرا، أما هؤلاء فمتمسكون به حتى الغرق معه… لأنهم أصلا غرقى بهذا القارب أو بدونه.