أكثر من ناشط سياسي تونسي استحضر هذه الأيام ما قاله القس الألماني الشهير مارتن نيمولر المناهض للنازية في قصيدته «لمّا جاؤوا» التي يقول فيها إنه «لما جاؤوا أولا لاعتقال الشيوعيين لم أدافع عنهم لأنني لم أكن شيوعيا، ثم جاؤوا للنقابيين ولم أدافع عنهم لأنني لم أكن نقابيا، ثم جاؤوا لليهود ولم أدافع عنهم لأنني لم أكن يهوديا، ثم جاؤوا لي وحينها لم يظل هناك من يدافع عني».
استحضار هذا الاقتباس جاء في سياق الاستغراب، والاستياء بالتأكيد، من المواقف المتراخية والضعيفة تجاه ما يحصل منذ أسابيع من اعتقالات واسعة لشخصيات سياسية وإعلامية من مشارب مختلفة إلى جانب نقابيين وأناس عاديين بسبب تدوينات على مواقع التواصل، فضلا عن ملاحقات قضائية لعديد الصحافيين بناء على قضايا رفعها وزراء بدعوى الثلب والتشويه، قبل أن حدوث ملاحقات بالجملة في حق عدد كبير من المحامين المعروفين بمعارضتهم لنهج الحكم الحالي في البلاد.
المشكلة هنا مزدوجة فهي لا تتعلق فقط برأي عام شبه لا مبال، إن لم يكن بعضه شامتا متشفّيا في اعتقال الإسلاميين تحديدا وبالأخص زعيمهم راشد الغنوشي، وإنما أيضا في طبقة سياسية، وثقافية كذلك، لا ترى أي حرج في صمتها تجاه هذه الاعتقالات طالما هي تجري ضد خصومها السياسيين أو الايديولوجيين. غاب في الغالب كل اعتبار مبدئي يعطي الأولوية، بل الصدارة، لحق الجميع في الرأي والتعبير ومختلف أشكال التنظيم السياسي السلمي بغض النظر عن أي تلوينات فكرية مما نتفق معها أو نختلف أو حتى نتصارع.
ما سبق لا يعني عدم وجود يساريين وقوميين وليبراليين، وإن كانوا قلة لا محالة، احتجوا وأدانوا ما جرى رغم اختلافاتهم المعروفة والمعلنة مع كثير ممن جرى اعتقالهم في قضايا مفتعلة تفتقر إلى أي صلابة في المضمون وأي سلامة في احترام الإجراءات، نذكر من هؤلاء مثلا حمّة الهمامي أو سالم لبيض أو عددا لا بأس به من المحامين والنشطاء المختلفين. في المقابل، هناك شق آخر من اليساريين والقوميين ممن وقفت أحزابهم، المجهرية بلا شك، مع الرئيس قيس سعيّد منذ اليوم الأول لانقلابه على الستور قبل زهاء العامين، لم تصدر عنهم أية مواقف منددة بالاعتقالات، خاصة تلك التي طالت قيادات من حركة «النهضة» لأنهم رأوا فيها تخلصا من منافس لم يستطيعوا منازلته في كسب أصوات الشعب، الذين يدّعون تمثيل «تطلعاته الحقيقية».
حتى «الاتحاد العام التونسي للشغل» كبرى نقابات البلاد، ومنظمات أخرى غيره بدت حذرة، وحتى انتقائية، في الإعراب عن معارضتها للاعتقالات، وكذلك فعلت بعض الأحزاب المعارضة لقيس سعيّد وكأن الكل يريد أن يقول بطريقته: «أنا ضد الاعتقالات ولكن لا أريد صراحة التضامن مع الإسلاميين!! »
هؤلاء، بدرجات مختلفة وبحسابات متباينة، لم يفلحوا في التخلص من الهوى السياسي والفكري في الحكم على الأمور على حساب الاعتبارات المبدئية التي تكتسي تألقها حين تنزّه تحديدا عن ذلك. هؤلاء أيضا، لم يستطيعوا أبدا استخلاص دروس الماضي في تونس وفي دول عربية أخرى.
عندما وصل زين العابدين بن علي إلى السلطة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، بانقلاب طبي على الرئيس الحبيب بورقيبة، جاء محمّلا بوعود ديمقراطية براقة جعلت الثلاث أو أربع سنوات من حكمه من أثرى الأعوام في مجال الحريات لكن دخوله في مواجهة مع الإسلاميين عام 1991 ومحاكمتهم صيف 1992 بشكل لم يحترم من القانون شيئا، قلب جميع المعطيات، حيث لم يقف مع هؤلاء في التصدي للانتهاكات العديدة إلا القليل ظنا منهم أن التخلص من «عدو الجميع» سيمهّد الطريق إلى ديمقراطية رائعة بدون الإسلاميين إلى أن انقلب بن علي عليهم جميعا بمجرد الانتهاء من المهمة الأولى فلم يسلم منهم أحد تقريبا، بما في ذلك حتى المعارضة الشكلية التي ارتضاها هو شخصيا أن تكون في المشهد.
التقاء الانتهازية والغباء تقود كذلك إلى عدم الاتعاظ بما جرى في مصر مثلا قبل عشر سنين حين ظنت أطياف عديدة من السياسيين أن التخلص من حكم الرئيس محمد مرسي سيفتح الباب على مصراعيه لديمقراطية جديدة بنكهة مختلفة لا مكان فيها لمن تم إقصاؤهم والزج بهم في السجون بعد محاكمات لم تراع من العدالة شيئا، فلما فرغ عبد الفتاح السيسي ومؤسسة الجيش التي وراءه من ذلك، واستعد المنتظرون بلهفة للمشاركة في وليمة الديمقراطية الجديدة اكتشفوا أن لا مكان البتة فخرجوا «من المولد بلا حمّص! »
ما يبعث على التفاؤل، ولو قليلا، أن حجم الوعي بالمقلب الجديد في تونس على النحو الذي عرفته قبل ثلاثين سنة وما عرفته مصر قبل عشر سنوات، في نمو تدريجي، ولو بطيء، وهو ما جعل عددا متزايدا من منظمات المجتمع المدني المختلفة، وفي مقدمتهم مثلا نقابة الصحافيين، بالمرصاد لأي انتهاك مهما كانت الضحية ولونها.. وهو المأمول أن يتواصل حتى تسترد تونس ديمقراطيتها وبالتالي عافيتها الحقيقية.