ها هو الرئيس التونسي قيس سعيّد «يبق البحصة» ، كما يقول اللبنانيون، أي يكشف المستور ويخرج ما كان يضمره منذ البداية وهو التخلص من دستور البلاد لعام 2014 وتفصيل آخر على مقاسه بعد أن قرر القيام بـ «إصلاحات دستورية » سيشكل لها لجنة على مزاجه ثم تعرض على «استفتاء شعبي» في يوليو / تموز المقبل.
قال سعيّد هذا الكلام مساء الاثنين بعد أن كان مهّد له قبل أيام حين قال إن المشكل في تونس اليوم سببه دستور «ثبت أنه لم يعد صالحا ولا يمكن أن يتواصل العمل به لأنه لا مشروعية له».
وحتى نبقى في نقطة تعديل الدستور أو إلغائه تتجه الأنظار إلى بعض أساتذة القانون الدستوري الذين بدوا مسايرين للرئيس في مسعاه غير الدستوري فهم من يراهن عليهم ليكونوا المحرّك الرئيسي لما بات يخطط له بشكل واضح وهو إرساء نظام سياسي لا يرضى عنه سواه.
ليلة 14 من يناير / كانون الثاني 2011 حين كان التونسيون يتابعون لحظة بلحظة أخبار مغادرة رئيسهم زين العابدين بن علي وعائلته أرض الوطن، خرج عبر قناة «الجزيرة» أستاذ القانون الدستوري والعميد السابق لكلية القانون في تونس الصادق بلعيد ليوضح بحماسة أن ما يجب أن يطبق الآن في البلاد ليس الفصل 56 من الدستور الذي يتحدث عن (فراغ مؤقت) لرئاسة الدولة، كما تقرر وقتها، وإنما الفصل 57 الذي يتناول (الفراغ الدائم).
مداخلة تاريخية أسهمت في تغيير المزاج الشعبي وفهمه للحدث ولهذا تم الانتقال بعد يومين فقط من اعتماد الفصل الأول إلى اعتماد الفصل الثاني فنُصِّب رئيس البرلمان فؤاد المبزع رئيسا مؤقتا لتونس إلى حين اختيار رئيس جديد، بعد أن كان محمد الغنوشي الوزير الأول هو من تولى المنصب إلى حين عودة بن علي من الخارج.
العميد بلعيد نفسه الذي دخل التاريخ وقتها بتلك المداخلة التي ظل يفتخر بها، يوشك هذه الأيام أن يدخل التاريخ مرة أخرى، لكن من الباب الخطأ إن هو تمادى في أن يزيّن للرئيس قيس سعيّد سوء ما يريد القيام به، وهو في ذلك ليس وحيدا، بل معه عميد سابق للكلية هو محمد صالح بن عيسى وأمين محفوظ وكلاهما أستاذ قانون دستوري.
هذا «الثلاثي» دأب الرئيس قيس سعيد على الالتقاء به وكعادته ينقل التلفزيون «محاضراته» عليه، وهم صامتون، مع أنه أكاديميا أقل منهم بكثير. وفي كل مرة يتجدد اللقاء بهم يزيد الرئيس من جرعة إظهار امتعاضه من دستور البلاد الذي على أساسه ترشح للرئاسة وفاز ووضع يده على القرآن الكريم ليقسم على احترامه، أمام نواب الشعب لكنه نكث بيمينه بعد أقل من سنتين.
حين التقى الرئيس بهذا الثلاثي الخميس الماضي لم يفصّل ما الذي يريده بالضبط وما الذي يعتزم القيام به مفضلا أن يعلن ذلك في كلمته التي ألقاها أمس الأول، لكن ذلك لم يمنع أحد هؤلاء الثلاثة من التحدث باسمه وكأنه «ممثل للمرجعية» على غرار المرجعيات الدينية في العراق، حيث خرج أمين محفوظ بعد ذلك اللقاء ليقول للإعلام إنه تم الاتفاق مع الرئيس على تكوين لجنة خبراء دستوريين تعمل على صياغة دستور جديد بدلا عن الدستور الحالي وهذا فعلا ما تم الاعلان عنه.
هكذا بكل بساطة، يقرر الرئيس منفردا ودون أي حوار مجتمعي، ليس فقط الانطلاق من فهمه الخاص للدستور ليبرر انقلابه عليه يوم 25 يوليو/ تموز الذي جمّد فيه البرلمان وحل الحكومة، وليس فقط إصدار مرسوم في 22 سبتمبر /أيلول جمّد فيه على مزاجه الخاص أجزاء من هذا الدستور واحتفظ بأخرى مع احتكار السلطتين التنفيذية والتشريعية، بعد استعصاء القضائية، وليس فقط التأكيد لمن يتصل به من المسؤولين الأجانب أن الدستور ما زال قائما مع أن ذلك لم يكن صحيحا، ليس ذلك كله فقط وإنما إلغاء الدستور مرة واحدة، أو تشويهه بتعديلات جوهرية هو من يرغب فيها بشكل خاص.
كل الطبقة السياسية تقريبا اعترضت على إلغاء أحادي الجانب لدستور انكب على صياغته طوال ثلاث سنوات مجلس تأسيسي منتخب، لكن بعضهم ارتأى التوجه إلى هذا «الثلاثي» حتى يوقف تورطه في ما عزم عليه الرئيس عبر توجيه رسائل مفتوحة إليهم، فيما دعاهم غازي الشواشي الأمين العام لحزب «التيار الديمقراطي» إلى أن «يلعبوا دورهم الوطني في هذه الفترة الدقيقة التي تمر بها بلادنا خدمة للمصلحة العليا للدولة ودفاعًا عن الديمقراطية وحفاظًا على مكتسباتنا.. وذلك بنصح الرئيس ودعوته للعودة إلى رشده » ، فيما قرر «الحزب الدستوري الحر» توجيه إنذارات إليهم بإمكانية «مقاضاتهم بتهمة المساهمة في تغيير هيئة الدولة بطرق غير قانونية، وذلك في صورة مساعدتهم لرئيس الجمهورية على المواصلة في تجميع كافة السلط وتغيير النظام السياسي».
على هذا الثلاثي أن يقرر الآن كيف سيذكره التاريخ.. أما قيس سعيد فمعروف تماما من الآن كيف سيُذكر.