«المرور بقــوة»… تعبير لم يكن دارجا أو معروفا إلى أن شرع البعض في استعماله لوصف ما قام به الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ الصيف الماضي حين أقدم على سلسلة من الإجراءات حصّنها لاحقا بعدم إمكانية الطعن فيها أمام أي جهة مهما كانت، ليستفرد بكل السلطات التنفيذية والتشريعية وتقريبا القضائية ليصبح حاكما مطلق الصلاحيات.
التعبير مقتبس من الإعلام الفرنسي الذي لجأ إليه لتلافي ذكر كلمة «الانقلاب»، حتى وإن كانت لوصف انقلاب على الدستور، وليس بالضرورة ذاك الانقلاب العسكري التقليدي. مع ذلك، فتعبير «المرور بقوة» يظل مشبعا بدلالة أن من أقدم عليه لم يراع بأي حال من كان حوله فمرّ وكأن لا أحد سواه في الطريق، غير عابئ بمن يكون قد دفعه أو داس على رجليه أو ارتطم به وهو يسرع الخطى، لا يلوي على شيء، نحو الهدف الذي رسمه بنفسه ولنفسه فقط.
لو بقيت الأمور في تونس عند هذا الحد لهان الأمر قليلا ربما، لكنها تحوّلت الآن إلى مرور يجمع مع القوة قلة حياء تمثلت، وإلى حد الآن على الأقل، في ما يلي:
– استخفاف بإضراب القضاة الذي عطّل سير كل المحاكم للأسبوع الثالث، وتجاهل كامل لطلب جمعية القضاة بالالتقاء برئيس الدولة لإيجاد حلٍ ما بعد عزله 57 قاضيا وحرمانهم جميعا من أي حق في التظلم ضد القرار. والمخجل هنا بيان أصدره عميد المحامين الموالي للرئيس يشهّر بهذا الاضراب.
– عدم صدور أي بيان رسمي أو حديث لأي مسؤول في أعقاب إضراب 159 مؤسسة قطاع عام أعلنته المركزية النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل) ردا على ما اعتبرته تسويفا من الحكومة في بحث عديد المسائل الحيوية من احترام اتفاقات سابقة موقّعة معها، وضرورة بحث كيفية التصدّي لموجة الغلاء الفاحش للأسعار وما سببته من تدهور في القدرة الشرائية للمواطن، وصولا إلى الخوض في ما يجري مع صندوق النقد الدولي من مباحثات يبدو أن الحكومة قطعت فيها وعودا لم تشرك فيها أحدا.
– الذهاب إلى سن دستور جديد للبلاد، باستسهال عجيب وغريب، رغم أن في ذلك نكثا فاحشا بالقسم الذي أدلى به الرئيس لاحترام دستور عام 2014، وتجاوزا رهيبا للتفويض الذي أعطي له شعبيا حين تم انتخابه عام 2019. ومع أن اللجنة التي شكّلها قيس سعيّد لكتابة هذا الدستور لم تجتمع قط إلا أن هذا الدستور بات جاهزا بقدرة قادر وسُلّم إليه أمس الأول من قبل رئيس لجنة لم تولد أصلا حين رفض عمداء كليات القانون في البلاد الاشتراك فيها مسجّلين موقفا تاريخيا كبيرا بالقول إن انتخابهم عمداء كلّيات لا يمنحهم أية صلاحية خارج هذا السياق.
– تشكيل الرئيس للجنة أخرى تبحث القضايا الاقتصادية والاجتماعية جلّ أعضائها من شخصيات هزلية وهزيلة لا يمثلون أحدا غير أنفسهم. ومع أن كثيرين رفضوا الاستجابة للدعوات التي وُجّهت إليهم إلا أن ذلك لم يستدع أي مراجعة، بل قيل إن هذا الذي سُمي «حوارا وطنيا» سيجري بــ«من حضر»، واستنادا لنتائج استشارة إلكترونية لم يشارك فيها سوى أقل من 5% ممن الناخبين.
– المضي قدما في خريطة الطريق التي رسمها الرئيس دون أن يشرك فيها أحدا ولا استشار أيا من القوى السياسية أو الاجتماعية. المحطة المقبلة في هذه الخريطة استفتاء سيجري في 25 يوليو/تموز المقبل على دستور صيغ على عجل، وبطريقة مرتجلة لم تعرفها تونس قط في تاريخها مما ينفي عن هذا الدستور أي صفة تجعله عقدا اجتماعيا شارك فيه الجميع ليلزم الجميع. الغريب أن السلطة لم تفترض سوى التصويت بـ«نعم» على هذا الاستفتاء فلا شيء يوضح ما العمل إذا ما صوّت الناس بـ«لا»، كما منعت هيئة الانتخابات التي شكّلها الرئيس المعارضين للاستفتاء من القيام بحملة تدعو الناس إلى مقاطعته واعتبرت ذلك جريمة يعاقب عليها القانون! أما المحطة التي تلي ذلك، فهي انتخابات تشريعية في 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل لا تشارك فيها الأحزاب ووفق قانون انتخابي جديد لا أحد يعرف تفاصيله بعد.
حين ترى أن كل ذلك يجري ولا أحد يعبأ بالشعب، أو يقيم له وزنا، فلا يخرج عليه أي مسؤول ليشرح له ما يجري أو يسعى لتبيين وجاهته، وحين ترى أن لا أحد يتحدث تقريبا إلى هذا الشعب المغلوب على أمره سوى رئيس لجنة صياغة الدستور الجديد، التي لم تجتمع قط، فيكلّمه بتعال وغطرسة، وبلغة فرنسية وكأنه يكلّم الشعب الفرنسي، يمكنك أن تستخلص أن آخر من يُحترم هو هذا «الشعب الذي يريد» مع أن لا شيء يقطع بما يريده حقا. الأدهى والأمر أنه حتى المؤيدين لمسار تونس الحالي مهمّشون بدورهم فلا أحد يجتمع بهم أو يستشيرهم، فيما يحال معارضون ومحامون وصحافيون على المحاكم العسكرية وتصدر أحكام بسجنهم.
فعلا، «اللي اختشوا ماتوا!! ».