«آخر حصن من حصون الديمقراطية».. هكذا يوصف القضاء في تونس الذي يُدكّ الآن بقوة أملا من الرئيس قيس سعيّد في اسقاطه لاستكمال السيطرة على مفاصل الدولة.
لا أحد يدري إن كان هذا الحصن سيقاوم حتى الرمق الأخير أم لا، لكن الأكيد أن هذه «المعركة» هي الفاصلة فإما أن تكون بداية الانتكاسة الحقيقية لسياسة سعيّد وتراجعه، وإما أن تكون تكريسا لها واستتبابا للأمور له بالكامل تقريبا.
صحيح أن ردود الفعل الدولية المنتقدة لحل «المجلس الأعلى للقضاء» وإغلاق مقره بالأقفال الحديدية لم تتأخر، سواء من قبل الخارجية الأمريكية أو الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، لكن المعركة في النهاية تخاض في تونس ولن تحسم بالدرجة الأولى إلا هناك، رغم أهمية مثل هذه المواقف التي لا يمكن تجاهلها.
هناك سابقة لا بد من استحضارها الآن، لأنها قد تشير إلى أن حصن القضاء قد لا يكون بالرخاوة التي ظنها الرجل: حين أعلن سعيّد «إجرءاته الاستثنائية» في 25 يوليو/ تموز الماضي جعل من بينها استحواذه عن «النيابة العامة» لكنه سرعان ما تراجع مكتفيا بتعليق عمل البرلمان وحل الحكومة و«تأميم» صلاحياتيهما لشخصه دون سواه.
سعيّد لم ينس ذلك أبدا، ولهذا وبعد أن ضمن وضع السلطتين التشريعية والتنفيذية تحت جناحه شرع مباشرة مع السلطة القضائية في اعتماد نفس المسار الذي اعتمده من قبل مع السلطتين السابقتين: الانتقاد الدائم والتشهير في كل مناسبة في مسعى واضح للشيطنة وتأليب الرأي العام ثم اتخاذ سلسلة من الاجراءات التضييقية من قبيل قطع المنح عن أعضاء «المجلس الأعلى للقضاء» وصولا إلى حله وإغلاق مقره، نفس التدرج الذي فعله مع كل من البرلمان والحكومة.
خضع أعضاء البرلمان لقرار إغلاق أبوابه بدبابة، ولم يشرعوا في التحرك إلا مؤخرا، وليس جميعهم على كل حال، كما خضعت الحكومة المقالة فلم يخرج رئيسها هشام المشيشي إلى الرأي العام ولو بنصف كلمة، فأغرى ذلك قيس سعيّد بمواصلة زحفه. قد يكون القضاء في تونس في حاجة حقيقية للإصلاح شأنه في ذلك شأن الأمن والصحة والتعليم والإدارة وغيرها كثير لكن الأكيد أن ما جرى ليس هو المدخل السليم لأنه مرتجل ومسكون بهاجس تصفية الحسابات ليس أكثر.
«المجلس الأعلى للقضاء» لم يستسلم وأعلن رئيسه يوسف بوزاخر بتحد واضح رفضه لقرار الحل قائلا إن المجلس سيواصل نشاطه حتى دون مقر رسمي. وجد المجلس تضامنا واسعا من الأحزاب السياسية ومن جمعيات قضائية مختلفة، وكذلك فعل عدد من القضاة السابقين المرموقين والمحامين، وكلهم أجمعوا على أن أي إصلاح للقضاء لا يكون بإخضاعه للسلطة التنفيذية كما كان سائدا لستة عقود قبل أن يأتي دستور 2014 ليجعله سلطة قائمة بذاتها بمجلس أعلى ينظم شؤونه الداخلية باستقلالية كاملة بعيدا عن التوظيف التي دأب عليه الحكام المتعاقبون على البلاد.
لن يكون التصدي لقرار سعيّد ذا فعالية إلا بتضامن كامل من الجسم القضائي الذي هدد بعضه بإغلاق المحاكم لجعل الرئيس أمام امتحان غير مسبوق في تاريخ البلاد، كما أن تضامن المحامين مطلوب بالحاح رغم أن مواقف عميدهم إبراهيم بودربالة بدت مخيبة حين تحدث عن «التفاعل إيجابيا» مع قرار حل المجلس وعن الاستعداد للقبول به «لأننا نتعامل مع الأمر الواقع» مع غمز ولمز متناغم مع ما يقوله الرئيس بشأن القضاة، وهو موقف لا يعرف بعد كيف سيُرد عليه داخل صفوف المحامين أنفسهم الذين شرع بعضهم في كيل الاتهامات المختلفة لعميدهم بسبب ما صرح به.
حين شرع قيس سعيّد في التمرّد على النظام السياسي الذي جاء به إلى الرئاسة بدأ بالبرلمان فصوّره «خطرا داهما وجاثما» على البلاد لكنه لم يقف عند تلك النقطة فاحتكر بمرسوم رئاسي في سبتمبر/ أيلول الماضي كل الصلاحيات التشريعية والتنفيذية دون أية امكانية لمراقبته أو الطعن في قراراته، ثم قدم «خريطة طريق» على مزاجه تجعله المتفرد بحكم البلاد إلى غاية نهاية العام الحالي بعد «استشارة الكترونية» غريبة الأطوار تنتهي باستفتاء على المقاس في يوليو/ تموز المقبل ثم انتخابات برلمانية في ديسمبر/ كانون الأول، دون الرئاسية طبعا، لا أحد يدري على أي أساس ستجري ومن سيشارك فيها أصلا بعد تخوينه كل الأحزاب والطبقة السياسية في البلاد.
إذا سقط حصن القضاء في تونس بفعل غياب المقاومة الصادقة أو«تواطؤ» أطراف هنا و هناك، داخليا وخارجيا، فسيدرك سعيّد، ومن يقف وراءه داخليا وخارجيا كذلك، أن الطريق باتت معبدة أمامه بالكامل ليفعل ما لم يتجرأ أبدا أن يفعله الراحل الحبيب بورقيبة، في أوج عنفوان زعامته، أو الراحل زين العابدين بن علي، في أوج قبضته الأمنية. عندها سينتقل سعيّد إلى «الهيئة المستقلة للانتخابات» وكذلك الاعلام، خاصة أنه قد شرع منذ فترة في إطلاق بعض «صواريخه» عليهما قبل الهجوم النهائي الذي يخطط له.
صدقت تلك المغردة التونسية التي كتبت تقول «من يسكت اليوم (على ما يجري حاليا) فليخرس للأبد».