زيارة هامة للغاية تلك التي تؤديها إلى تركيا في 6 أبريل/ نيسان رئيسة المفوضية الأوروبية فون ديير لايين ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال للقاء الرئيس رجب طيب أردوغان. هذه الزيارة تأتي، كما وصفتها وكالة الأنباء الألمانية، «في الوقت الذي يحاول فيه الاتحاد الأوروبي الاستفادة من الهدوء المؤقت في التوترات مع أنقرة لإصلاح الموقف».
إصلاح الموقف هذا لم تظهر بشائره بوضوح إلا مع قدوم الرئيس بايدن وتحسب تركيا لأيام صعبة إن هي واصلت لهجتها القوية في التعامل مع الملفات الدقيقة، سواء تلك المتعلقة بالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي والتوتر القديم الجديد مع اليونان، أو العلاقة مع قبرص اليونانية وما جلبه كلا النزاعين من إشكالات في حوض المتوسط تتعلق بالحدود البحرية الشائكة.
تبدو تركيا الآن حجر الزاوية في عملية ترميم العلاقات بين بعض الدول المتوسطية التي وصلت في السنتين الماضيتين بالخصوص إلى حافة الهاوية. من هنا تكتسي زيارة المسؤولين الأوروبيين أهمية خاصة لا سيما وأنها تأتي بعد ما قاله الرئيس التركي مؤخرا من أن بلاده ترغب في زيادة «عدد أصدقائها» وتحويل المنطقة إلى «واحة سلام» مؤكدا خلال مؤتمر حزبه الحاكم تصميمه في الفترة المقبلة على «تحويل منطقتنا إلى واحة سلام عبر زيادة عدد أصدقائنا ومعالجة الخصومات».
وترجمة لهذا التوجه الجديد، شرعت أنقرة منذ سبتمبر/ أيلول الماضي في محادثات فنية مع اليونان لتجنب حدوث مناوشات في شرق المتوسط، كما بدأت مؤخرا في محاولة تحسين علاقاتها مع مصر بعد أن وقفت طوال السنوات الماضية ضد حكم الرئيس السيسي واحتضنت معارضيه. وقد جاءت الخطوة التركية بعد استحسان أنقرة أخذ القاهرة بعين الاعتبار للجرف القاري التركي وهي تطرح مناقصتها للتنقيب عن النفط والغاز في فبراير/ شباط الماضي. كما أن تركيا التي رحبت بالسلطة الجديدة الموحّدة في ليبيا بعثت بأكثر من رسالة طمأنة بأنها ستدعم نهج المصالحة في هذا البلد الذي مزقه التناحر ووقفت فيه أنقرة مع جهة على حساب أخرى حتى وإن كانت حجتها بأنها تقف مع السلطة المعترف بها دوليا. وفضلا عن هذا وذاك، بدت تركيا في الفترة الأخيرة أكثر حذرا وأقل قسوة في الحديث عن السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين التي كثيرا ما شهرّت بها بكل قوة.
حجر الزاوية التركي لا يعني أن البناء المتوسطي الجديد لا يشهد بالتوازي «عمليات ترميم» أخرى لا تقل أهمية. من بينها بالخصوص بداية مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بإشراف الأمم المتحدة، بعد عقود من الممانعة والرفض، والتي مهما طالت لا بد وأن تتوج في النهاية خاصة إذا تدخلت أطراف دولية وازنة أو جاء هذا الترسيم ضمن صفقة أكبر من لبنان ومن مصالحه الوطنية الخاصة.
وبالتوازي مع ذلك، يبرز مسار المصالحة الوطنية الليبية عنصر استقرار وتهدئة يأمل الجميع أن يتواصل مع ابتعاد شبح التجاذب بين القوى المتنافسة على أرضه، والذي دخل حتى مناطق رسم الحدود البحرية بعد اعتراض اليونان ومصر على الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق الوطني الموقع في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
وإذا ما بحثنا عن السقف الذي يسند كل هذه التحركات فلن نجد سوى البحث الضروري والعاجل حول أفضل السبل لمسألة تقاسم موارد الطاقة في شرق البحر المتوسط. هذا السقف هو الوحيد الآن القادر على جعل حجز الزاوية التركي والجدران التي تبنى هنا وهناك أكثر متانة وديمومة. الكل عينه على الوصول في النهاية إلى توقيع اتفاقية بين مصر وتركيا وإسرائيل لنقل ما سيتم اكتشافه من مصادر الطاقة الواعدة إلى أوروبا عبر تركيا التي «تعتبر أقصر الطرق وأكثرها أمانا» كما قال الدكتور إيلخان صاغسن الباحث التركي في الجغرافيا السياسية للطاقة في إحدى الجامعات التركية.
ولا تبدو إسرائيل معترضة مبدئيا على مشروع من هذا القبيل فقد أبدى وزير الطاقة الإسرائيلي كل الاستعداد للتعاون مع تركيا في مد خط أنابيب شرق المتوسط من إسرائيل إلى أوروبا واصفا المشروع بأنه «سيكون أطول وأعمق مشروع في العالم يبنى تحت البحر».
الحرص على استقرار شرق المتوسط والسعي إلى نزع فتيل أي تصادم فيه لم يكن هم أنقرة منفردة ذلك أن توجه الاتحاد الأوروبي إلى التجاوب مع التوجهات الجديدة لتركيا، التي تمتلك أطول خط ساحلي في شرق المتوسط، من شأنه أن يغذي الآمال بإمكانية تتويج جيد لكل هذه الجهود. وهنا لا ننسى أن «منتدى غاز المتوسط» الذي دخل ميثاقه حيز التنفيذ خلال هذا الشهر وضم سبع دول هي قبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا ومصر والأردن وفلسطين، لم يغلق الباب في وجه تركيا، بل بالعكس ترك إمكانية التحاقها به ممكنا، بل ومرغوبا فيه.
وإذا كان تعبير «الشرق الأوسط الجديد» هو الذي راج في العقدين الماضيين، فإن شرق المتوسط الجديد هو الذي سيحل محله الآن في الأغلب، رافعته الطاقة والمصالح الاقتصادية ولا شيء غير ذلك، مع ما يعنيه ذلك من تراجع كل العداوات السابقة.