«لا عودة إلى الوراء» من أكثر الجمل المحبّبة إلى قلب الرئيس التونسي قيس سعيّد، يكرّرها دائما، بمناسبة وبغير مناسبة، ليقول إنه لا مجال للتراجع عما قرّره في الخامس والعشرين من يوليو/تموز الماضي حين أعلن تجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة قبل أن يقرر لاحقا الاستئثار بكل السلطات، دون أية إمكانية للطعن في قراراته، بل والمضي في هندسة جديدة وكاملة، على هواه، للنظام السياسي للبلاد عبر محاولة سن دستور ينكبّ على صياغته حاليا أناس لا يمثّلون إلا أنفسهم ولم يفوّضهم أحد.
أن يدمن تكرارها قيس سعيّد فذلك مفهوم، لأن العودة إلى الوراء تعني في النهاية أن انقلابه على الدستور قد فشل وأنه قد يصبح ملاحقا قضائيا بهذه التهمة، لكنه ليس الوحيد من يقولها فقد ترددت أيضا على لسان قيادة «الاتحاد العام التونسي للشغل» وبعض أحزاب المعارضة لسعيّد حتى بعد أن اتسعت رقعة تغوّله إلى أن وصلت إلى «تأميم» كل السلطات ووضعها في جيبه وآخرها السلطة القضائية والنيابة العامة.
ليس هؤلاء فقط من يقول «لا عودة إلى الوراء» فأغلب المواطنين يرون ذلك أيضا مع أنهم يغفلون ذكر أن هذا «الوراء» لا يتمثل فقط، كما يظنّون، في البرلمان الذي مجّــوا جلساته، ولا الحكومة التي كرهوا عجزها، ولا أحزاب الائتلاف الحاكم وعلى رأسه «حركة النهضة»، وإنما هو أيضا قيس سعيّد نفسه وأداؤه الكارثي، وعديد الأحزاب التي لم تكن في الحكم لكنها كانت جزءا من أسباب سخط الناس هي الأخرى، و«الاتحاد العام التونسي للشغل» الذي شنّ آلاف الاضرابات في وقت كان فيه اقتصاد البلاد يئن بمرارة. كل هؤلاء ما زالوا في مواقعهم ومع ذلك، نجدهم يتبرؤون جميعا مما كان سائدا ويرمونه فقط على «النهضة» التي وإن كانت مسؤولة بلا جدال عن الكثير، لكنها لم تكن وحدها في ذلك.
وطالما أننا لا نريد العودة إلى هذا «الوراء» فلنمض إذا قدما إلى الأمام. المشكل أنه اتضح الآن، ويتضح أكثر فأكثر، أن هذا «الأمام» لا يعدو أن يكون سوى المربّع الذي يريد قيس سعيّد جرّ البلاد إليه بمزاج فردي جامح تدعمه كوكبة من الفوضويين والانتهازيين والسياسيين الذين لا يحركهم سوى حقد مرضي على خصم عجزوا عن منازلته في صناديق الاقتراع فقرروا الاستئساد بالقوى الصلبة للدولة لشطبه. هؤلاء يسايرون سعيّد، وبمذلّة أيضا، في كل خطوات تفكيك الدولة وضرب الحريات مقابل أن يخلّصهم من «العدو المشترك».
ومع ذلك، كثيرون هم التونسيون الذين لا يريدون العودة إلى «وراء» يرونه سيئا للغاية، وفي نفس الوقت لا يرغبون في المضي إلى هذا «الأمام» المخيف. هؤلاء يجدون أنفسهم في حيرة حقيقية خاصة وأن المأزق الحالي مصحوب بضائقة معيشية للمواطنين واختناق مالي للدولة مع تصاعد منسوب الكراهية والتباغض بين مؤيدي سعيّد ومعارضيه حتى أن أحدهم شبّهه بالصراع الدموي الذي جرى بين أنصار الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف عام 1955 بسبب الخلاف حول القبول بالاستقلال الداخلي (نوع من الحكم الذاتي الموسّع) أو الاستقلال الكامل عن فرنسا. أجواء جعلت بعض السياسيين لا يترددون من التحذير من حرب أهلية بل وهناك من يشير إلى أن التحارب بالكلمات في مواقع التواصل والإعلام كان يمكن بسهولة أن يتحوّل إلى تراشق بالأسلحة لو كانت متاحة حقا.
ورغم كل ما سبق، فإن هناك من التونسيين أيضا من لهم فهمهم الخاص إلى «الوراء» يختلف عن مجرد القبول بعودة الأمور إلى ما كانت عليه من قبل واستمرارها، هكذا ببساطة، وكأن شيئا لم يكن. هؤلاء يعتقدون أن العودة إلى «الوراء» يجب ألا تعني عودة نفس السياسيين إلى عبثهم السابق، ولا عودة الساحة إلى ما كانت تشهده من تجاوزات وفساد، وإنما هي عودة إلى «قواعد اللعبة» التي قبل الجميع بالاحتكام إليها قبل أن يعبث بها قيس سعيّد. هي العودة إلى دستور عام 2014 الذي صاغه مجلس تأسيسي منتخب عقدا اجتماعيا حقيقيا، مع مؤسسات ديمقراطية عديدة أسقط سعيّد تباعا حبات عقدها الثمين.
هنا، يصبح «الأمام» المنشود ليس «الجماهيرية» التي يعدّ لها سعيّد و«الحشد الشعبي» الذي يرهب به معارضيه وإنما مراجعة جريئة للسنوات العشر الماضية بنقد ذاتي شجاع يقدم عليه الجميع، وأولهم حركة النهضة ورئيسها، من أجل بناء جديد يحصّن التجربة من أي حادث طريق كهذا الذي نعاني ويلاته حاليا. المشكل الآن أن لحظة كهذه لن تصبح فعلا متاحة إلا بعد إسقاط الانقلاب كأولوية مطلقة.
لمصلحة تونس ومستقبلها، لا مفر من اجتراح حل سياسي يتواضع فيه الجميع للوطن لأن استمرار العبث الحالي وعدم التصدي له، وتواصل عزلة تونس الدولية واشتداد ضائقتها الاقتصادية التي قد تفجّر غضبا اجتماعيا غير مسبوق، قد تدفع جميعها إلى تغيير غير متحكَّمٍ فيه، بل وقد تفتح الباب أمام دكتاتورية جديدة أسوأ من الجنون الحالي الذي لا يمكن أن يستمر.