«بعض الجهات المعروفة لم تجد هذه المرة شيئا تركز عليه سوى نسبة المشاركة في هذه الدورة الأولى للتشكيك في تمثيلية مجلس نواب الشعب القادم في حين أن نسبة المشاركة لا تقاس فقط بالدور الأول بل بالدورتين، ومثل هذا الموقف القائم على التشكيك من جهات لا دأب لها إلا التشكيك، فضلا عن تورط البعض في قضايا لا تزال جارية أمام المحاكم، مردود على أصحابه بكل المقاييس بل هو شبيه بالإعلان عن نتيجة مقابلة رياضية عند انتهاء شوطها الأول».
هذه الفقرة المستهينة بنسبة المشاركة الهزيلة في انتخابات تونس البرلمانية السبت الماضي، والتي كانت الأضعف منذ ثورتها 2010، لم يكتبها شاب غر، ما زال متأثرا بأجواء مونديال قطر الأخير، بل هي من بيان الرئاسة التونسية في ساعة متأخرة مساء الاثنين. هذا الموقف يعني ببساطة شديدة أن قيس سعيّد ليس مستعدا على الإطلاق، ولو للحظة واحدة، مراجعة أي شيء في ضوء ما جرى والذي وُصف بمفردات مختلفة تراوحت بين «الزلزال» و«الصفعة» و«سحب الشرعية» والتي دعت إثرها كل الأطراف الرئيس التونسي إلى «الاستقالة» أو «الرحيل»، وفي أقلها تجاسرا، إلى «مراجعة جذرية» لسياسته.
قيس سعيّد بمثل هذا الموقف لا يُظهر فقط، مرة أخرى، اعتقاده الدائم أنه وحده على حق وعدم استعداده، ولو للحظة التقاط أنفاس لمراجعة صغيرة أو كبيرة، وإنما أيضا، وهذا هو الأخطر، أن الطريق السياسي الديمقراطي للتغيير في تونس يزداد ضيقا حتى يكاد يصيبه الانسداد الكامل. أي خلاصة يمكن أن تستنتجها القوى السياسية، بما في ذلك حتى القوى التي كانت مؤيدة للرئيس في بداية انقلابه على الدستور في 25 يوليو/ تموز 2021، حين ترى أمامها هذا الجدار العالي من الصدّ والانكار الذي قد يوصلها في النهاية إلى فقدان الأمل في التغيير السلمي في البلاد؟!
بيان الرئاسة بعد يومين من الصمت الذي تراوحت التقييمات له بين «عدم الاكتراث الكامل» أو «الشعور الحاد بالصدمة» يعني أن سعيّد لم ير أية وجاهة، ولو بنسبة واحد في المئة، للإنصات إلى ملاحظات أو استنتاجات قيلت في الداخل أو الخارج بخصوص نسبة المشاركة الشعبية الهزيلة لانتخاباته الأخيرة، مع أن انتخابات 2011 عرفت نسبة 52٪ وانتخابات 2014 نسبة 69٪ وانتخابات 2019 نسبة 41،3٪. لم يعبأ الرجل ليس فقط بما قاله معارضوه، وهذا منتظر، ولكنه لم يعبأ كذلك بما دعا إليه جزء هام من مناصريه من حتمية إجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها.
في أبريل/ نيسان 1969 دعا الرئيس الفرنسي التاريخي شارل ديغول شعبه إلى استفتاء عام حول إصلاح مجلس الشيوخ والمجالس البلدية شارك فيه 80٪ من الناخبين فعارض إصلاحاته 52٪ وأيدها 48٪ لكن الرجل استقال لأنه استنتج أنه لم يعد يحظى بالتفويض الشعبي اللازم للمضي قدما. لسنا في وارد مقارنة ما لا يقارن، ولكن العبرة هي أن السياسي لا يمكن له «تطنيش» رسائل صناديق الاقتراع، بغض النظر عن السياق الشرعي والدستوري للانتخابات الأخيرة، ويقرر مواصلة ما أقر العزم عليه رغم أنف الجميع، وبالتعسف حتى على الشعار الذي ارتضاه لنفسه وهو «الشعب يريد». تراجع الحبيب بورقيبة في محطات ما، وكذلك فعل زين العابدين بن علي، لكن عند قيس سعيّد الكلمة لا وجود لها أصلا في معجمه.
ما يفعله قيس سعيّد الآن لا يختلف أبدا عن المرات السابقة فقد دأب على قراءة أي نتائج على هواه وليس بناء على ما تفرزه الأرقام من حقائق تفرض نفسها على الجميع. هكذا كان الأمر في كل محطات «خريطة الطريق» التي حددها بنفسه فعندما لم يشارك في «الاستشارة الإلكترونية» سوى زهاء 500 ألف فقط من شعب يناهز 12 مليونا اعتبر ذلك «نجاحا كبيرا»، وعندما لم يشارك في الاستفتاء على الدستور سوى ثلث الناخبين المقدر عددهم بـ 9 ملايين لم ير في ذلك ما يعيب، وها هو يرى مشاركة عُشر الناخبين في الانتخابات التشريعية مجرد نتيجة الشوط الأول من مباراة كرة قدم!!
إنه الإنكار والعناد اللذان لن يتوقفا أبدا على ما يبدو، ويزيد من خطورتهما نوع من التمشي «الفاشي» الذي بدأ يطل برأسه، وذلك حين يأتي رئيس هيئة الانتخابات ليقول إن النسبة «المتواضعة وغير المخجلة» لإقبال التونسيين على الانتخابات الأخيرة تعود إلى غياب «المال الفاسد» فيها متهما، بلا حياء، شعبا بأكمله بالفساد والارتشاء في الانتخابات السابقة التي كان فيها هو نفسه عضوا في هيئتها الانتخابية حين كانت مستقلة فعلا، أو عندما يأتي عميد المحامين السابق الطامع في رئاسة البرلمان المقبل ليقول إن من صوّتوا هم «الوطنيون الحقيقيون» وغيرهم مجرد «عملاء وخونة!! ».
تونس مقبلة للأسف على مرحلة غاية في القسوة واللامعقول وسط ضائقة مالية واجتماعية تنذر بانفجار مزلزل بعد كل هذا الغضب المكتوم، فيما تستمر المواقف الدولية مخاتلة مائعة على غرار المواقف الأمريكية أو الفرنسية الرسمية من انتخابات تونس الأخيرة.
الخلاصة: الورطة تونسية ولن يفكّ عقدتها سوى التونسيين أنفسهم، يوم يقررون ضرورة وضع حد لهذا العبث المضحك المبكي.