«سيمفونية» للحوار الوطني تعزف هذه الأيام في كل من تونس ومصر والسودان، لكن قليلين هم من ينصتون وقليلين أكثر هم من يُطربون.
لكل واحدة من هذه السميفونيات مُلحنها الخاص ومقاماتها المميّزة إلا أنها تشترك جميعها في أكثر من «نوتة»، وتشترك أكثر في نشاز واحد كبير هو بحثها المضني عن شرعية للحكم تراها مهزوزة أو مهدّدة.
تتمثل هذه النوتات المشتركة في حسابات كل سلطة من وراء إطلاق هذا الحوار، وإشكالية الحاضرين فيه وحجج الغائبين أو المغيّبين، وفي المشرف عليه، وتوقعات نجاحه أو فشله.
لنبدأ بتونس، فقد انطلق فيها هذا الحوار قبل عشرة أيام لكن لا علاقة له أبدا بذلك الحوار الذي كانت طالبت به كل الأطراف وطالما اعتبرته طوق النجاة لحالة الانسداد الكاملة في البلاد، ذلك أن الرئيس قيس سعيّد تجاهل كل تلك الدعوات مقدّما تصوره الخاص الذي يقوم على أهداف مختلفة، أهمها سنّ دستور جديد للبلاد لم يطالبه به أحد ولم يُنتخب أصلا بناء على ذلك. وما زالت جولات هذا الحوار متواصلة…
في السودان، انطلق هذا الحوار قبل أسبوع لكنه توقف بعد فشل جلسته الأولى رغم أن الأمل كان معقودا أن يؤدي إلى اتفاق على تكوين مجلس سيادة وصلاحياته والاتفاق على الترتيبات الدستورية وآلية اختيار رئيس وزراء بعد استقالة عبد الله حمدوك مطلع هذا العام والتي جعلت العسكر يتحمّلون بمفردهم وزر الوضع الحالي بعدما انقلبوا على شريكهم المدني قبل ذلك بشهرين فأجهض ذلك مرحلة انتقالية كان يمكن أن تتوّج بسلام رغم كل المنغّصات.
أما في مصر فيُنتظر أن ينطلق الحوار الوطني خلال الأسبوع الأول من الشهر المقبل بعد فترة شكّك فيها بعض المصريين في انطلاقه رغم أنه جاء بدعوة من الرئيس عبد الفتاح السيسي في أبريل -نيسان الماضي. كانت حجة هؤلاء أن هذا الحوار ليس له من هدف سوى تلميع صورة السلطة استعدادا لمؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ المقرر عقده في نوفمبر/تشرين الثاني في شرم الشيخ، وأنه لن يعقد بعدما اتضح أن «اللعاب» الذي أساله أكثر من «الأكل» الذي يمكن للسلطة أن تقدمه. ومع ذلك، هاهو الحوار سينطلق قريبا لنرى كيف سيكون.
ونأتي الآن إلى قائمة المشاركين في هذا الحوار:
في تونس لم توجه الدعوة أصلا إلى الأحزاب سوى تلك الأحزاب «المجهرية» التي تكاد لا تمثل شيئا لا في البرلمان المنحل ولا شعبيا ومعها منظمات شعبية (الأعراف والمرأة) وما يجمع بينها كلها تأييدها لما أقدم عليه الرئيس التونسي من انقلاب على الدستور واستفراد بالحكم. ومع هؤلاء، حضرت شخصيات، الله وحده يعلم من تمثل بالضبط وكيف تم اختيارها سوى بالاستناد إلى معيار واحد هو تهليلها للرئيس، في حين رفض «اتحاد الشغل» الحضور حتى لا يكون «شاهد زور على حوار صوري معروف النتائج»، كما رفض عمداء كليات القانون في البلاد دعوة المشاركة لتكليفهم بصياغة دستور جديد قائلين إن ذلك يتنافى مع دورهم الأكاديمي وضرورة إبعاده عن التوظيف السياسي الذي يريد جرَّهم إليه زميلُهم السابق في الجامعة.
في السودان، لم تحضر سوى 7 أطراف أوّلها المكوّن العسكري و«تحالف الحرية والتغيير/الميثاق الوطني» المنشق عن «الحرية والتغيير» مع أحزاب كانت شريكة في نظام الرئيس المعزول عمر البشير و«قوى الحراك الوطني الموحّد» و«حزب المؤتمر الشعبي». أما من أعلنوا مقاطعتهم رغم توجيه الدعوة إليهم فهم «تحالف الحرية والتغيير/المجلس المركزي» و«لجان المقاومة» و«تجمّع المهنيين» والحزب الشيوعي وحزب الأمة القومي وتيارات سياسية أخرى بلغ عددها 7 وكلها تعتبر ما جرى في السودان في 25 أكتوبر /تشرين الأول الماضي انقلابا عسكريا كامل الأركان.
أما في مصر، وفي انتظار اتضاح الصورة، فإن الحديث يدور الآن فقط عن «توسيع قاعدة المشاركة في الحوار من خلال دعوة جميع ممثلي المجتمع المصري، بكافة فئاته ومؤسساته بأكبر عدد ممكن لضمان تمثيل جميع الفئات في الحوار المجتمعي (..) وبالتنسيق مع كافة التيارات السياسية الحزبية والشبابية» على ما أعلنته هيئة إدارة الحوار.. أما كيف سيترجم ذلك عمليا دون إقصاء فلا أحد يدري بالضبط.
رعاة الحوار يختلفون بين الدول الثلاث ففي حين اختارت تونس شخصية أكاديمية متقاعدة مثيرة للجدل تجاوزت الثمانين تخلط العربي بالفرنسي في حديثها للإعلام وتتعامل معه بعنجهية جاء حوار السودان برعاية دولية ثلاثية بين الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي والهيئة الحكومية للتنمية في شرق افريقيا (إيغاد)، فيما اختارت مصر نقيب الصحافيين ورئيس هيئة الاستعلامات منسقا عاما للحوار وهو من سيشكل «مجلس أمناء الحوار الوطني».
حتى الآن على الأقل، لا شيء واضحا صدر من أي من الحوارات الثلاثة إذ لا نسمع، سوى جعجعة ولا نرى طحينا، وقد يكون أول ما سينزل إلى الأسواق هو على الأرجح أكياس «الطحين التونسي» مع أن كثيرين يطعنون من الآن في جودته وحتى في إمكانية أن يكون صالحا للاستهلاك الآدمي.