كثيرون في تونس هم أولئك الذين يبحثون عن أول فرصة لمغادرة البلاد، منهم من اختارها بشكل درامي وغير نظامي عبر قوارب متهالكة قد تصل إلى الضفة الأخرى من المتوسط وقد لا تصل، ومنهم من تراه يبحث عنها بشكل آخر وبلا كلل.
التونسيون في المهجر ليسوا ظاهرة جديدة فتاريخيا توجه مئات الآلاف منهم للعمل في دول أوروبية مختلفة، وخاصة فرنسا وإيطاليا، أغلبهم من العمال في موجتهم الأولى، كما توجه التونسيون إلى دول الخليج العربية منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي وكان أغلبهم من كوادر التدريس أو التمريض. أغلب من ذهب إلى أوروبا بقي هناك، أما الخليج فكانت عموما لفترة قد تطول أو تقصر، ولكن نادرا جدا أن كانت مستقرّه الدائم.
الجديد هذه السنوات هو رغبة كل الفئات المهنية تقريبا في الهجرة، من كوادر متوسطة وحتى كفاءات عالية، في حين كانت مثل هذه الحالات قليلة جدا في السابق. ووفق تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية هاجر من تونس إلى أوروبا ودول الخليج العربية، أكثر من 40 ألف مهندس وثلاثة آلاف طبيب خلال السنوات الخمس الفائتة فقط، كما أن دولة مثل ألمانيا صارت تستقطب الكثير من الكفاءات الشابة بمجرد تخرجها، فيما وصل أكثر من 16 ألف تونسي إلى إيطاليا عبر قوارب، في عمليات هجرة غير نظامية منذ مطلع عام 2022.
صاحب كلَّ ذلك ظواهرُ لم تكن موجودة من قبل، فالهجرة لم تعد حكرا على شباب في مقتبل العمر، بل هناك الآن عائلات بأكملها تتوجه للاستقرار في كندا مثلا، إلى جانب قدوم خريجي جامعات إلى دول الخليج العربية راضين بالعمل في محلات تجارية مختلفة في انتظار فرص أفضل ونسبة كبيرة من هؤلاء من الفتيات في حين لم تكن هذه الظاهرة موجودة من قبل.
طبعا، وبلا جدال لا يمكن فصل هذه الملامح الجيدة في هجرة التونسيين عما تعانيه بلادهم في السنوات الماضية من ضائقة اقتصادية ومالية تزداد سوء باستمرار، مع ترد متواصل في كل الخدمات التعليمية والصحية والإدارية وغلاء فاحش لم يكتف بمزيد تفقير الفقراء وإنما جعل الطبقة الوسطى تكابد لتعيش على الكفاف ليس أكثر، وهي صمام الأمان للاستقرار الاجتماعي لكنها اليوم أنهكت كما لم يحصل من قبل. ومقابل ذلك، تعيش فئات صاعدة من المهرّبين والفاسدين وتجار السوق السوداء في بذخ فاحش مع كل ما يصاحب ذلك من انحرافات معروفة للجميع.
كل ما سبق صحيح، لكنه لا يفسّر كل شيء، بل ولا يفسر أهم ما يمكن أن يقال في هذا الشأن: لقد تغيّرت تونس كثيرا في السنوات العشر الماضية حتى باتت غريبة عن أبنائها. منذ الثورة التونسية مطلع 2011 تحركت كل المياه التي كانت راكدة لعقود من الاستبداد لكن لا أحد اهتم بتنقية هذه المياه مما علق بها من رواسب وشوائب. دخلت تونس في تجربة ديمقراطية رائدة في البلاد العربية مع دستور جديد عام 2014 وانتخابات حرة وتداول سلمي على السلطة سواء على مستوى رئاسة الجمهورية أو الأغلبية البرلمانية وعاش الإعلام أجواء من الحرية بلا حدود .. ولكن وسط كل ذلك نسي السياسيون الانسان الذي لا يعيش فقط بالديمقراطية.
لم يلمس المواطن أي تحسّن في حياته اليومية فزادت الضائقة المعيشية من نقمته على مجمل الطبقة السياسية التي لم تكن رائدة ولا خلاّقة في أي شيء فكره الإسلاميين واليساريين والدستوريين والنقابيين والرسميين والمعارضين حتى بات يكره الجميع بلا استثناء تقريبا، وهو ما يفسر العزوف التاريخي عن المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جاءت ضمن سياق انقلابي أطاح بما كان قائما ولم يبن شيئا. انسحبت الطبقة المثقفة أو انزوت ومنها من ركب صهوة الانتهازية الرثة بلا حياء فزادت خيبة الجميع من الجميع.
اختنق الناس وتاهوا واضطرب لديهم سُلم القيم ففقدوا الثقة في كل شيء واستشرت العقليات الأنانية والوصولية مع بحث كل واحد عن خلاصه الفردي. اهتزت أركان العائلة وفقد الناس الأمان بمختلف أبعاده ولم يعد البلد مُلهما في أي شيء وتراجع حتى عن المكاسب التي كان فخورا بها قبل عقود مثل الصحة والتعليم. لا وجود اليوم لأي رؤية أو مشروع لرقي البلاد وتطويرها بغية إخراجها من كبوتها الحالية، لا عند السلطة ولا المعارضة. ومع موجة السخف والعبث التي صاحبت عهد قيس سعيّد وسياساته ازداد الاختناق وانطفأ كل أمل فساءت الصحة النفسية لعموم التونسيين حتى بات البعض يرغب في الهجرة بأي ثمن، والبعض الآخر يقدم عليها لا لشيء سوى الرغبة الجامحة في تنشئة أبنائه في أجواء مغايرة، فيما لا يرغب معظم من هم في الخارج في العودة إلى تونس... على الأقل طالما ظلت كما هي اليوم.
يبدو أن "العبور من الإحباط إلى العمل ومن اليأس إلى الأمل" الذي تحدث عنه قيس سعيّد في كلمته الأخيرة بمناسبة رأس السنة ما زال بعيدا جدا... أما "فرحة الحياة" التي كان يتغنى بها الزعيم الحبيب بورقيبة فقد ولّت وانقضت.. فمتى يعود بصيص الأمل؟!.