لعلّه حان الوقت الآن،في هذه السنة الخطيرة تحديدا، لإعادة التأمّل في وضعنا الحالي بعد اعادة استخلاص دروس الماضي التونسي منذ الاستقلال. ان الموقف من الاستقلال -و من الثورة- يمكن أن ينير الماضي و الحاضر و المستقبل لو صغناه و مارسناه بصدق علمي و سياسي تاريخي .بل انّ ذلك وحده ما سيساعدنا اليوم وغدا في رسم الطريق ...ان بقي في الأفق طريق ! ...وعسى أن تنير هذه النقاط المرتجلة و المختصرة الوعي و الأمل في الطّريق.
1-
ان استقلال تونس هو ما يصطلح عليه بتعبير 'الاستقلال السياسي' من الاستعمار المباشر لتكوين الدولة الوطنية في اطار ما كان يعرف منذ بداية القرن العشرين مع ويلسون بحق الشعوب /الأمم في تقرير مصيرها . والاستقلال السياسي لا يعني ضمان باقي الاستقلالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مما يجعل الاستقلال السياسي نفسه منقوصا كما اعترف بذلك بورقيبة نفسه في خطاب البالماريوم في لحظة صدق استثنائية.
2-
هذا الاستقلال التونسي هو مكسب تاريخي حقيقي لأنّه،بقطع النظر عن نقائصه،يعتبر تقدّما تاريخيا اذا قورن ببقاء الاستعمار الفرنسي المباشر في تونس ونتائجه الكارثية على البلاد ؛ على الأرض و الشعب و السلطة، و هو ثمرة كفاح التونسيين من 1881 الى 1956 وليس منّة فرنسيّة على أيّة حال.
3-
وهذا المكسب الشعبي التونسي تحقّق تحت قيادة الدستوريين بما كانوا يمثّلونه من نزعة وطنية-اصلاحية داخل حركة التحرّر الوطني التونسية (ويتفقون فيه مع حركات وطنية-اصلاحية أخرى في 'العالم الثالث' و يختلفون فيه مع حركات أخرى وطنية-ثورية في ذلك 'العالم الثالث'). وهذه النزعة الوطنية-الاصلاحية تؤثر في نفس الوقت على طريقة النضال (غير الثوري المسلّح) وعلى نتيجة النضال الداخلية ( بين ايجابيات وسلبيات دولة الاستقلال في مختلف الميادين) و (الخارجية ( (العلاقة مع المستعمر السابق وباقي الدول في العالم و في الوطن العربي).
4-
الاستقلال السياسي اذن كان مكسبا كبيرا (اذا قورن بالاستعمار المباشر) ولكن منقوصا (اذا قورن بإنجازات الاستقلالات التي حققتها بعض الحركات الوطنية-الثورية خاصة ) و من هنا اختلفت سياسات الحركات السياسية التونسية الأربع الكبرى في تونس من المسألة وحكم ذلك على تاريخ تونس الى اليوم.
5-
الحركة الدستورية ( رغم احتجاجات جناحها اليوسفي في البداية و انتقادات جناحها الذي سيصبح اشتراكيا ديمقراطيا بعد ذلك مع بن صالح من ناحية والمستيري من ناحية ثانية ) بالغت في مدح المكسب لجني ثمار قيادتها للعملية التاريخية من خلال الهيمنة على الدولة والمجتمع وأدّى ذلك -في زمن تارخي عالمي مفسّر لا مبرّر) الى تسلّط بورقيبة و دولة الحزب الواحد والى اختيارات اصلاحية متردّدة في ميادين عديدة أدّت الى أزمات 1978 و1984 و1987 وأخيرا الى ثورة 2010-2011 السياسية -بدورها- الى حدّ الآن .
6-
الحركة القومية العربية التونسية (بدءا بميول يوسفية لا ترقى الى الانخراط فعلا في الحركة القومية العربية اللاحقة) ناصرية وبعثية ثم قذافية اعتمدت في تقييمها للاستقلال التونسي على منظور دولة الوحدة-النّواة من ناحية وعلى آلية 'الانقلاب الثوري' من ناحية ثانية ولذلك بالغت في نقد الاستقلال من منظورها لما تسميه "الدولة الاقليمية الرجعية العميلة" دون الوعي بخصوصية الحركة الوطنية -الاصلاحية وخصوصية الاستقلال السياسي الذي تحققه و دون تقييم رصين لمكتسباته الممكنة في المستويات غير السياسية والتي قد تتفوق حتى عليها كما تفوق بورقيبة على عبدالناصر وعلى القذافي في بعض مسائل التحديث مثلا . وهذا الموقف القومي العربي خدم الدستوريين بشكل غير مباشر لأنّه كان قصوويا بينما كانوا هم براغماتيين.أما بعد الثورة فان السمة الغالبة على الحركة القومية هو تدحرج أجنحتها وسطا بين جميع المتنافسين مما جعلها غير مستقرّة في وضع تراجع عربي عام للقوميين.
7-
الحركة الاسلامية التونسية ( بعد أن انتقلت من الجماعة الى الحزب بفضل اسناد الدستوريين لها ضدّ اليسار والقوميين والنقابيين ...) اعتمدت في تقييمها للاستقلال التونسي على منظور دولة الخلافة من ناحية وعلى آلية 'الانقلاب الثوري' الاسلاموي من ناحية ثانية ، ولذلك بالغت هي الأخرى في نقد الاستقلال من منظورها لما تسميه "الدولة العلمانية التغريبية الخائنة ... " مما جعلها تنفصل عن ' الاسلام التونسي' نفسه من ناحية و تكون محافظة معادية حتى للمكتسبات التي حققتها الدولة الدستورية من ناحية ثانية، فتخسر معركة الهوية ومعركة البناء الوطني في نفس الوقت حتى رغم دخول النظام في أزمة وبداية انتشار الاسلاميين الشعبي كما عبرت عنه انتخابات1981 قبل أن يحصل ما حصل مع 7 نوفمبر 1987 وما يليه. وهي لذلك ،رغم ما يقال عن المراجعات، تساهم بعد الثورة في الجذب الى وراء محافظ من نوع آخر باسم الديمقراطية فتجد نفسها في تقاطع مع كثير من الأجنحة الدستورية الفاسدة ولكن 'غير الانقلابية' و ما ظهر من جديد من المجموعات 'الشعبوية الاسلاموية' .
8-
الحركة اليسارية التونسية ( رغم اعتدال موقف الحزب الشيوعي التونسي النسبي والذي لم يجن منه شيئا فمنع من النشاط بين 1963-1981 ) وخاصة اليسارية الجديدة (منذ 1963 اعتمدت في تقييمها للاستقلال التونسي على منظور "اقتصادوي" يفرغ كل استقلال سياسي من قيمته طالما لا يحقق الاستقلال الاقتصادي ف لم تنتبه الى خصوصية الحركة الوطنية -الاصلاحية واعتبرت ذلك الاستقلال مجرّد خيانة استعمارية جديدة وقارنته مع تجارب استقلال قادها يساريون مثل الصين وكوبا وفيتنام،الخ .
وبذلك خسر اليسار معارضته الجماهيرية للدستوريين وبقي محصورا في التلامذة و الطلبة والمثقفين لأنّه لم يثمّن مكسب الاستقلال السياسي ولا بعض المكاسب الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية لدولته الا عندما اصبحت مهددة لاحقا من قبل الاسلاميين خاصة. بل انه لم ينتبه الى أن مستوى العيش في تونس بورقيبة -بن علي، في بعض مظاهره، كان أفضل من مستوى العيش في ألبانيا وكوبا مثلا بقطع النظر عن جذرية الاستقلال الذي ارتبط هنالك بالانعزال في الواقع. وبعد الثورة،رغم تجربة الجبهة الشعبية مثلا، يجد اليسار نفسه اليوم في أزمة تتقاذفه التيارات بين الدستوريين والوسطيين و القوميين ، بين حداثة تسلطية و ثورية كلاسيكية وغيرهما، دون تجديد حقيقي يليق بالشهداء و بالمناضلين.
9-
وحدهم الوسطيّون الاشتراكيو ن الديمقراطيون (أحمد المستيري...) و الاشتراكيون الشعبيون (أحمد بن صالح...) كان لهم تقييم نظري وسياسي مرن للاستقلال التونسي بحيث لم يبالغوا - بعد انفصالهم/فصلهم - لا في النقد و لا في المديح، بل ساهموا في انجازات وعارضوا سياسات ببراغماتية رفضها و لم يحتملها لا بورقيبة ولا بن علي لاحقا. وهذا ما جعل -مثلا- حركة الاشتراكيين الديمقراطيين تحصد انتصارات انتخابية كبيرة سنة 1981 ولكن تم تزييفها طبعا. ولكن، لقد كان الطريق الجماهيري و النخبوي أمام هؤلاء مسدودا لأنّهم عارضوا الوطنية-الاصلاحية من داخل النزعة الوطنية -الاصلاحية نفسها في وقت قوّتها و انتصاراتها. وعندما دخلت أزمتها العميقة ، تجاوزهم المعارضون باسم الثورية -الاسلامية والقومية و اليسارية - فماتوا مع موت البورقيبية -البنعلية بعد 2011 ولم ينقذ توجههم الوسطي حتى من وقف على يسارهم نسبيا و كان يريد أن يكون وريثهم : أحمد نجيب الشابي.
10-
وهكذا،فان مكسب الاستقلال السياسي -مقارنة بالاستعمار المباشر - و المكتسبات الاجتماعية -قبل الأزمة- وسوء تقييم المعارضين لها أو ضعفهم كانوا قد ساهموا في قوّة بورقيبة الوطنية-الاصلاحية نخبويا وشعبيا مقارنة بكل التيارات السياسية الأخرى حتى تعفّن الأزمة مع بن علي بعد أن انتقلت الحركة الدستورية من حركة وطنية-اصلاحية، ولكن تسلّطية الى حزب الفساد المستبدّ -بكل ما في الكلمة من معنى- رغم عدم الغائه لكثير من المكتسبات التاريخية بل ورغم تدعيمها أحيانا مستفيدا من وضع اقليمي مناسب (أزمة حصار ليبيا مثلا)،الخ.
خاتمة:
نحن الآن في 2021 ونحتفل بالذكرى الخامسة و الستين للاستقلال بعد سنوات عشر من سقوط بن علي بعد ثورة سياسية لم تستطع التحول الى ثورة اجتماعية. ونتيجة كل ما قلناه أعلاه نصل الى الوضع الحالي الكارثي على كل المستويات، ولكن الذي يعطي الصورة التالية ويطرح السؤال التالي ... على درب أمل :
-الصّورة :
لقد فشلنا جميعا كل حسب حجمه و موقعه سلطة ومعارضة. السلطة (الجديدة ) لم تستطع انجاز شعارات الثورة السياسية من الشغل و الحرية و الكرامة الوطنية ومقاومة الفساد و الجهوية بعد أن وصلت الوطنية-الاصلاحية الى منتهاها مع البنعليّة ....و المعارضة (التي لا تزال قديمة) لا تستطيع المرور بتلك الثورة السياسية الى الثورة الاجتماعية لأنها لا تتوحّد حول برنامج مناسب لتطوير الوطنية -الاصلاحية الى وطنية-اجتماعية - ديمقراطية جديدة حقيقة بتونس 2021 .
- السؤال :
الى متى سيمكننا المواصلة هكذا ، في مستوى الحاكمين و المعارضين على السواء، بقديم (حاكم ومعارض) لا يموت ( بل يريد احياء ما مات ) و جديد لا يولد (بل يبقى حبيس شرنقة ماكان في الماضي جديدا) وبكلّ هذه المظاهر السياسية المتشوّهة المنتشرة (من الاصطفاف الدولي و الفساد و العربدة و الشعبوية...) وبما قد يجعل الأزمة القادمة أزمة انفجار انسحاقي وليست أزمة انفجار انبعاثي؟
- الأمل :
نحن لن نعيد اختراع العجلة .ولكن علينا صناعة عجلة تونسية .ولا أمل لنا في ذلك الا بطريقة وحيدة : رغم التدخلات الدولية ورداءة أغلب النخب السياسية -بل ربما بسبب ذلك- يبقى الأمل الحقيقي الوحيد في تشكل كتلة تاريخية -بخصوصية تونسية ما- تعقد مساومة تاريخية -بخصوصية تونسية ما - تثمّن كل ما تحقق من مكتسبات في المجتمع و الدولة منذ الاستقلال و منذ الثورة ، وتنهي الصراعات و المساومات السياسوية العبثية المتواصلة منذ سنوات عشر بحيث يكون طريق المساومة التاريخية هذا هو نفسه طريق صراع سياسي من نوع جديد... من أجل بداية الانقاذ و التجديد.