1-تقديم :
نحن الآن - في 2023- وهنا - في تونس - في قلب أزمة لم تشهد لها البلاد مثيلا في تاريخها المعاصر كما تدلّ على ذلك وضعية المالية العمومية من ناحية والوضعية الجيو-استراتيجية من ناحية ثانية ، وذلك في لحظة نيوليبيرالية معولمة ذات خصوصية اقليميّا دمرت بعض دول المنطقة حيث تونس هي من الحلقات الضعيفة فيها أصلا .
ونحن الآن، أمام الأزمتين المالية والجيو-استراتيجية ، أمام امتحان توفير المال في علاقة بالمؤسسات المالية الدولية المانحة وامتحان تحديد علاقتنا بالمحاور الدولية والاقليمية . وقد وصلنا الى لحظة قد تكون مفصلية بحيث لن يكون ما بعدها كما كان ما قبلها لأنها قد ترتبط باحتمال افلاس البلد أصلا . وفي هذه اللحظة كان موقف قيس سعيّد في المنستير يوم 6 أفريل الماضي : ' نرفض الاملاءات، نحن بلد صاحب سيادة ، تونس ليست ملفّا ، لا بدّ من الحفظ على القطاع العمومي ومنظومة الدعم،لا بدّ من الحفظ على السلم الأهلي ..وعلينا أن نعوّل على أنفسنا… ' بحيث توجد أمامنا 'الاختيارات' التالية :
- 'التعويل على الذات' بالصمود في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بعض الوقت لتحسين شروط التفاوض مع الحصول منه على القرض باقل الأضرار في النهاية وتجنّب حتى الذهاب الى 'نادي باريس' ولكن مع الابقاء على علاقة 'طبيعية' مع 'الغرب'
- عدم الحصول على القرض من صندوق النقد ولكن 'التعويل على الذات' بطريقة أخرى بالحصول على ما يعادله من بنوك وجهات و محاور مانحة أخرى بشروط أفضل مع ما يعنيه ذلك من امكان تعديل جديد للبوصلة جيو-استرايجيا ..مثلا ، باتجاه 'الشرق'
- عدم حصول لا هذا ولا ذاك واحتمال الدخول في أزمة افلاس الدولة وما سيعنيه من نتائج على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بما يعني أنّ 'التعويل على الذات' سيكون بطريقة ثالثة 'لا غربية ولا شرقية ' يعرف الجميع أنها تتطلب شروطا تاريخية للنجاح يعتبر اجتماعها ونجاحها هنا والآن في تونس بمثابة حصول معجزة تاريخية في 'زمن نهاية المعجزات' .
نحن اذن في لحظة مفصلية في بلد يمسك قيس سعيّد فيه بكل مفاصل السلطة بسبب البنية الرئاسوية للنظام السياسي . ومن المهمّ في هكذا وضع محاولة رسم بورتريه سوسيولوجي للرئيس، يضاف الى البورتريهات الأخرى ، لتحليل احتمالات مستقبلنا القريب نفسه قبل المتوسط والبعيد .
2- في رسم 'البورتريه' السوسيولوجي :
منذ 2019 انتشرت في تونس ،بصفة خاصّة، صياغة البورتريهات النفسية-الأخلاقية والسياسية للرئيس قيس سعيّد . وقد كانت البورتريهات النفسية- الأخلاقية تنقسم عموما بين صنفين متناقضين : بورتريه 'المتوحّد' و'الفرداني' و كل ما صاحبه من تبخيس شخصي وسياسي ، وبورتريه 'النظيف' و'الشجاع' وكل ما صاحبه من تمجيد شخصي وسياسي.
كما كانت البورتريهات السياسية تنقسم أيضا الى صنفين متناقضين جسّدهما مثلا مصطلح 'القيصر' ذي الدلالة المزدوجة ؛ 'القيصر الايجابي' الذي لم يقدم فحسب على 'الحل القيصري' لأزمة مخاض طالت بحيث شكل قيس سعيّد مثال 'القيصرية التقدّمية' – بلغة غرامشي- المنقذة و المخلّصة من 'الانتحال الديمقراطي' باتجاه 'ديمقراطية حقيقية'،الخ. ، و'القيصر السلبي' ،الحاكم الفردي المستبدّ – والشعبوي المحافظ والفاشستي،الخ. ، بحيث شكل قيس سعيّد نموذج أسوأ ما يمكن وصفه كنقيض للديمقراطية يعادل هتلر عند بعضهم .
وليس هدفي هنا الخوض في هذين الصنفين من البورتريهات اللذين أشبعا تكرارا ..دون تحليل علمي في الغالب ، بل هدفي هو محاولة القيام برسم بورتريه سوسيولوجي سياسي من زاوية سوسيولوجية فيبرية (نسبة الى ماكس فيبر) لقيس سعيّد قد يساعد على الفهم والفعل السياسيين من ليس له ثقافة سوسيولوجية دنيا على الأقلّ . هذا مع 'الاشارة النظرية ' الى أنني سأستعمل ماكس فيبر دون أن أكون فيبريا- نسقيا وانما بصفة إجرائية فحسب ، ومع 'الاشارة المنهجية' الى أن رسم بورتريه ، أيا كان البورتريه الذي يبقى 'مثالا نموذجيا' نظريا فحسب ، هو عمل اختزالي للواقع الحيّ الذي يختلف عن البورتريه من حيث التعقيد و من حيث الحركة وذلك سواء كان البورتريه 'رسما كاريكاتوريّا' أم 'رسما واقعيّا ' أم 'رسما تركيبيا - تكعيبيا ' أم ' رسما مجرّدا ' ناهيك إن كان ..' رسما سحريّا ' .وهذا مع 'الاشارة القيمية' أنني لا أزعم الحياد السوسيولوجي السياسي هنا لأنه أمر صعب التحقيق مهما ادّعينا ذلك وأنا أدافع عن بلدي وأرغب في الاصلاح ، ومع 'الاشارة الشكلية' أن هذا النصّ هو مجرّد 'كتابة فايسبوكية ' وليس نصّا علميا موجها للنشر في نشرية علميّة محكّمة..كي يعذرني السوسيولوجيّون المحترفون .
وقبل الشروع في رسم البورتريه الفيبري لقيس سعيّد - كفاعل سياسي وكقائد سياسي- بالاستفادة من نظرية 'أصناف الفعل' و'أصناف القيادة' الشهيرة، وجب التذكير – كما يتم كلاسيكيا عند العارفين بعلم الاجتماع- انّنا لن نستعمل مصطلح 'العقلانية' في صيغة فيلفريدو باريطو الذي يعتبر الفعل العقلاني مماثلا للفعل المنطقي نفسه لأنه ، كما يقال ، يقيّم الفعل 'من الخارج' ، من قبل 'الملاحظ' ، ولا 'يتفهّم' الفعل من 'الداخل' - بوضع نفسه 'مكان الفاعل' و'الانطلاق من المعنى الذي يعطيه الفاعل لفعله' - كما يقوم بذلك ماكس فيبر . ولم أكن لأسوق هذه الملاحظة الأولى لو لم يكن هنالك في تونس،منذ سنوات، من يتكلم كثيرا عن 'غياب العقلانية' عند قيس سعيّد - وعند غيره- داعيا الى 'تيار سياسي عقلاني' يبدو أنه تيار وضعي باريطوي - نسبة الى باريطو- عرف أصحابه ذلك أم لم يعرفوا .
3- أصناف الفعل والشرعية عند ماكس فيبر:
يميّز ماكس فيبر بين أربعة أصناف من الفعل الاجتماعي وثلاثة أصناف من الحكم/الشرعية انطلاقا من نظريته 'التفهّمية' للفعل الاجتماعي أسوقها هنا بشكل مختزل جدّا في البداية كما يعرفها كل المهتمين بعلم الاجتماع ويجدها القارئ – الذي لم يطلع على 'الاقتصاد والمجتمع' أو غيره من كتب فيبر- في أشهر المقالات والكتب التبسيطية لسوسيولوجيا ماكس فيبر التي من أشهرها في تونس كتابا ريمون آرون ( 'في مراحل التفكير السوسيولوجي'1) و جوليان فروند ('سوسيولوجيا ماكس فيبر'2 ) .
أ- أصناف الفعل الاجتماعي : وهي أربعة يمكن اختصارها كما يلي:
- الفعل العقلاني الهدف : الذي يهتم بالتناسق بين الهدف والوسائل الكفيلة بتحقيقه مثل فعل المهندس الذي يهدف الى بناء جسر وعليه أن يستعمل من الوسائل ما يتلاءم مع مشروعه/هدفه 'العقلاني' التقني و الأداتي – حسب تعبير مدرسة فرنكفورت مثلا.. وهو وحده الذي يتناسق مع تصور باريطو العقلاني المنطقي.
- الفعل العقلاني القيمة : وهو العقلاني ولكن الذي تتحكم فيه قيمة بحيث لا يكون أداتيّا وتقنيّا كفعل المهندس بل هو عقلاني من صنف خاصّ يجعل من الفاعل يشبه قبطان السفينة الغارقة الذي لا يغادرها تمسكا بقيمة أخلاقية في عدم خيانة مساعديه وركاب السفينة. و العقلانية هنا قيميّة بمعنى أنه يوجد هدف مخطط له بالعقل عند القبطان ولكنه موجه بقيمة أخلاقية عليا تتجاوز العقلانية الأداتية و التقنية التي يميل الى عنادها لأنه يحتكم الى قيمة ويرغب في اخضاع الوسائل والظروف الى تلك القيمة قبل الهدف نفسه وهو بمعنى ما ، اداتي ، ليس عقلانيا في جوانب منه .
- الفعل العاطفي : وهو الفعل الذي يكون أقرب الى ردّ الفعل النفسي بحيث يكون أقرب الى الانفعال المباشر الذي يؤدّي الى قرار /فعل لا علاقة له لا بهدف عقلاني مرسوم مسبّقا ، و لا بنسق قيمي متبلورسابق ، بل هو يشبه 'صفع الأم لولدها' و'ضرب اللاعب لزميله' في وضعيات انفعالية نفسية فيكون تعبيرا عن حالة ذهنية ونفسية مؤقتة لا غير.
- الفعل التقليدي: هو الفعل النابع من العادات و التقاليد بحيث لا يكون الفعل فيه لا تحت وطأة انفعال نفسي خاصّ ولا بحاجة الى تحديد هدف عقلاني دقيق مسبق ولا بحاجة الى الاستناد الى قيمة مفكّر فيها بدقّة ، وهو فعل يميل الى التكرار 'الآلي' تقريبا و تحدده الاحداثيات الثقافية المتمثلة في منظومة العادات والتقاليد السائدة المترسخة منذ مدّة طويلة و التي يكون الفاعل الاجتماعي مستبطنا وخاضعا لها حدّ الاستسلام النفسي والعقلي والأخلاقي .
ب- أصناف الحكم /الشرعية : وهي ثلاثة يمكن اختصارها كما يلي :
- صنف الشرعية التقليدي : وهو صنف يقوم على اعطاء شرعية للحاكم بمقتضى السنن والأعراف المتعامل بها بشكل تقليدي و التي تحدّد اختيار الحاكم وتفرض شرعيته ( التقليدية العرفية) وتحدّد مشروعيته (واجب الطاعة و الولاء التقليديين) .وفي هذا الصنف التقليدي لا توجد قيمة كبرى لا للقانون (بمعناه الحديث) ولا للخصال الشخصية للحاكم (كما هو الحال في أشكال أخرى). ويميز هذا الصنف النظم التقليدية الملكية القديمة مثلا .
- صنف الشرعية الكاريسمي (أو الكاريزمي) :وهو صنف يتمحور حول الخصال الفردية للحاكم التي قد تكون نابعة من قداسة دينية أو استقامة أخلاقية أو بطولة عسكرية و/أو سياسية تجعله يملك 'هالة' خاصة تعطيه الشرعية وتمكنه من اضفاء مشروعية على حكمه بفضل ايمان الناس بخصاله تلك. ويمكن أن يتخفّف هذا الصنف كثيرا من وطأة كل من الأعراف القديمة ومن الشروط القانونية الحديثة ، وعادة ما تكون العلاقة بين القائد والناس مباشرة لا تحتاج الى وسائط لا بيرقراطية ،ولا عرفية قديمة ، ولا قانونية حديثة.وينطبق هذا الصنف على حكم/شرعية الأنبياء ورجال الدين والأبطال التاريخيين والأشخاص 'الاستثنائيين' وغيرهم.
- صنف الشرعية القانوني والعقلاني : وهو الصنف الحديث الغالب،ويعتمد على الشرعية الدستورية والقانونية في الحكم ويسند بالهيكلة البيرقراطية (بوصفها عقلنة ادارية تقودها حكومة حسب فيبر). ويتميّز هذا الصنف بعدم الشخصنة من ناحية (عكس شرعية صاحب الكاريسما) وبالشكلانية القانونية الحديثة (التي تعني التخلص النسبي من التقليد و العرف ) ويكتسب شرعيته ومشروعيته من احترام المواطنين( وليس الرعايا) للقانون (الممنوح أو الموضوع بالاتفاق العام ) والقبول بذلك من قبل الناس بوصفه الطريقة الأمثل للحكم العقلاني الحديث والموضوع قيد التنفيذ ، بالقانون، من من قبل المصالح الحكومية والادارية . وينطبق هذا على الملكيّات الدستورية وعلى الجمهوريات الحديثة عموما .
وقبل محاولة الاستفادة من هاتين التصنيفيتين - للفعل وللشرعية - في رسم بورتريه سوسيولوجي لقيس سعيد ، الفاعل والقائد ، لا بدّ من التذكير أن الأصناف هنا،حسب فيبر نفسه ،هي مجرّد 'نماذج مثالية' نظرية قد لا توجد أبدا بشكل صاف في الواقع الذي يعرف ،غالبا، تشابك الأفعال وتوازيها وتزامنها رغم امكان الحكم بهيمنة صنف على آخر هنا وهناك وفي هذا الوقت أو ذلك . إن الأصناف هنا هي مجرّد أدوات منهجية نظرية للتعريف والتصنيف والتحقيب كثلاثة عمليات أساسية في أي بحث يرنو أن يكون علميّا ولكن الذي لا يصبح كذلك أذا انسجن داخل شرنقتها النظرية أثناء محاولات الفهم والتحليل الملموس للوقائع الاجتماعية التاريخية .
4- قيس سعيّد 'الفاعل العقلاني القيمة' والقائد الذي تضعف كاريسماه :
إن الفرضية الأساسية التي نميل الى اثباتها هنا هي أنه رغم تنوع أصناف الفعل عند الفاعل السياسي قيس سعيّد ، يمكن اعتباره بالأساس 'فاعلا عقلاني القيمة' من ناحية وقائدا تضعف كاريسماه بسرعة بسبب كونه ذلك الفاعل نفسه من ناحية ثانية. وإن لذلك انعكاسات كبيرة على الأزمة التونسية الحالية وامكانات حلّها ،من بين أسباب أخرى،بسبب تأزم الفاعل ونمط قيادته نفسهما.
- من ناحية أولى ، توجد حسب رأينا أشكال مختلفة من الفعل الاجتماعي - بالمعنى الفيبري- في ممارسة قيس سعيّد رغم أننا نميل الى اعتباره فاعلا عقلاني القيمة بالأساس .
فمن جهة يمكن التأكيد على بعض مظاهر الفعل التقليدي في ممارسته راجع الى شدّة تأثره المعلن بشخصية عمر بن الخطاب مثلا. ويظهر ذلك مثلا في تكرار الزيارات الى أماكن شعبية ، ولكن بوجه مكشوف على عكس ما يذكر في المأثور عن عمر الذي يتخفى ليلا للقيام بذلك.
ومن جهة ثانية يمكن اعتبار بعض أفعال قيس سعيّد عاطفية تقريبا ؛ ان قراره بخصوص 25 جويلية نفسه كان،حسب روايته، قد اتخذه بينه وبين نفسه اثر تأثّر بزيارة الى مدينة الرديّف. ولكن يجب تنسيب الأمر هنا اذ له فكرة سابقة حول الموقف من الديمقراطية التمثيلية والأحزاب حاول أن يؤجّلها ولم يفلح. كما أن قراره جمع مجلس أمن قومي بخصوص أفارقة جنوب الصحراء كان أقرب الى الفعل العاطفي المتأثر بتصاعد الأحداث ذات الشأن أيّامها. ومثل ذلك يمكن قوله حول قرارات بخصوص المحاسبة تبين انها ردود أفعال ضد بعض أشخاص تبين أنهم أبرياء لاحقا.
ومن جهة ثالثة، يبدو قيس سعيد في الظاهر قد ترك الفعل العقلاني الهدف (الأداتي) للحكومة.ولكن الحكومة حكومته و من حق ،بل واجب،المحلّل الاشارة الى ذلك.وعموما،لا يمكن أن يغيب الفعل العقلاني الهدف عنه وهو المسؤول الأول في البلد الذي له ميزانية وموازين دفوعات وصادرات وواردات وغيرها.ومن ناحيته الخاصة تحديدا، يعتبر التأكيد على مشروع الصلح الجزائي وعلى موضوع استرجاع المال بالخارج وغيره من مظاهر العقلانية الأداتية ولكن المرتبطة بقيم محاربة الفساد والتهرّب الضريبي وتهريب المال وغيره.
ولكن ، بشكل عام،يبدو لنا قيس سعيد أقرب الى 'النموذج المثالي' النظري -الذي ليس هو 'المثال النموذجي' حتى لا يخطئ غير المختصين في علم الاجتماع – للفاعل العقلاني القيمة اذ هو،مثلا، يشترط اصلاح مختلف التوازنات المالية بالحفاظ على القطاع العام انطلاقا من موقف قيمي في الدفاع عما يسميه 'حقوق الانسان (عموما) قبل أن تكون حقوق المواطن (التونسي)'.كما يظهر هذا في ما يشبه هوسه بانجاز مشاريع 'المدينة الصحية في القيروان' و حتى بمشروع 'الشركات الأهلية' .فهذه المشاريع ليست منتجة ومربحة وليست ذات وزن اقتصادي في البلد الذي يعاني الأزمة الحالية. وإنّ الاصرار عليها يشير الى حضور كبير للقيم في الفعل يصل الى أقصاه في الاعلان المتكرّر للتصميم على 'حفظ الأمانة أمام الله والتاريخ و الشعب ' الى حدّ 'الاستعداد للموت دفاعا البلاد و الدولة'.
إنّ مجمل هذه السمات الأخيرة في وضع البلاد المتأزّمة تذكّرفعلا ، الى حدّ الآن على الأقلّ ، بنموذج قبطان السفينة الذي لا يغادر السفينة الغارقة. ويمكن تأويل تصريح المنستير بعدم الاستعداد 'لتسليم الوطن الى أناس غير وطنيين' في نفس الاتجاه - في بعض جوانبه. ومن صدف التحليل الفيبري،وقيس سعيّد محاط ببعض اليساريين التونسيين التاريخيين، أن فيبر يذكر كمثال على 'الفعل العقلاني القيمة' موت الزعيم الاشتراكي الألماني فرديناند لاسّال في مبارزة بالسلاح طلبها هو ضدّ زوج حبيبته السابقة التي أجبرت على تركه من قبل والدها الذي رفض تزويجه إيّاها .
- من ناحية ثانية ، يمكن القول أن قيس سعيّد يعتبر مثالا خاصا عن الزعيم ضعيف الكاريسما بسبب تاريخه الشخصي من ناحية و بسبب تزاوج أشكال مختلفة من الشرعية في تصوّره هو نفسه عن الحكم .
من جهة أولى، هو زعيم كاريسمي بالنسبة لأنصاره الذين يلقبونه بالأستاذ ، وهي صفة علمية تربوية أصبحت عندهم ذات شحنة سياسية. وإن إقدامهم على ترشيحه سنة 2019 للرئاسة دون تقدّمهم للانتخابات التشريعية يدعّم التمثل الكاريسمي له عندهم وعنده في نفس الوقت بدليل وصول الأمر الى اعلان دستور رئاسوي . ولكن هذه الكاريسما لم تمتلك قوتها الا بضعف منافسيها الكبير لأن صاحبها ليس له تاريخ علمي أو نقابي أو سياسي خاصّ يجعله من الشخصيات الاستثنائية الكبرى في مجال اختصاصه وفي التاريخ التونسي، بل نجح لأن منافسيه هم الذين أفسدوا تواريخهم الخاصة وخسروا أرصدتهم بعد عشر سنوات من سقوط بن علي فقزّموا أنفسهم حتى اضطر أغلبهم الى السير وراءه في الدور الثاني من انتخبات الرئاسة سنة 2019.
و من جهة ثانية ، يبدو قيس سعيّد كالجالس بين كرسيين في تصوّره للسلطة وللشرعية ؛ كرسي الكاريسمية وكرسي القانونية العقلانية. وإن هذه الوضعية تتناسق كثيرا مع 'الفاعل عقلاني القيمة' المذكور أعلاه بل وتجعله يقترب أحيانا من الفعل التقليدي - في تقليد عمر بن الخطاب. إننا نجد ازدواجا بين نموذج الشرعية الكاريسمية القائم على الاعلاء من الصفات الشخصية للقائد السياسي و على ابراز علاقته المباشرة بالله والتاريخ والشعب من ناحية ، وبين نموذج الشرعية القانونية العقلانية لأستاذ القانون الدستوري المجبر على 'اللعب في اطار القانون' ولكن مع التركيز على 'المشروعية' أكثر من 'الشرعية' ومع تفضيل القانون الممنوح على القانون الحاصل بالاتفاق العام ،الخ.
إن ضعف الكاريسما الأوّلي وتميز صاحبها بمشروع قانوني شكلاني لا يرتقي الى مصاف المشاريع الفكرية السياسية الكبرى الملهمة طويلا للشعوب التي تعاني أزمة كما أصبح يعانيها الشعب التونسي ، وإن الجلوس على كرسيّي الكاريسما والقانونية العقلانية المرتبطة ببيرقراطية الدولة – بخصوصيتها التونسية العامة وارتكازها الحالي على أجهزة الدولة الصلبة - يؤدّي الى تسارع ما سمّاه ماكس فيبر ميل الكاريسما الى الرّوتين وفقدانها لهالتها وبريقها الضعيف نسبيا في حالتنا منذ البداية أصلا . ولعل نسب المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة وضعف التحشيد الشعبي لأنصار الرئيس يدلاّن على ذلك أيما دليل رغم بقاء درجة من الاسناد الشعبي الضمني نكاية في من سبق وخوفا من الفراغ وفقدانا للأمل في من سيأتي .
5- خاتمة :
بشكل عامّ اذن ، يمكن القول ،مع الأسف، إن كلا من البلد وسلطته الآن في أزمة وإن تفاوتت الأزمتان في العمق مؤقّتا. و المشكلة الأكبر أن أزمة البلد الاقتصادية تتزايد في ميل عكسي مع نقص الكاريسما القيادية التي لم تنجح كما يجب في الانتقال نحو الشرعية القانونية العقلانية واعتمدت طريقة 'المرور بقوة' في الاستشارة والاستفتاء على الدستور والانتخابات التشريعية بعقلية 'البيعة لمن حضر' التقليدية. ومن حضر في الانتخابات الأخيرة هم حوالي عشرة في المائة من مجموع الناخبين ، ولم يحصل منهم أنصار الرئيس سوى على عشرة في المائة من المقاعد ، وبدأوا دورتهم النيابية بالانقسام والنزاع حول رئاسة البرلمان والاختلاف في التنسيق مع باقي الكتل البرلمانية. هذا في نفس الوقت الذي تمّت فيه خسارة أغلب من ساند من الاحزاب و المنظمات الوطنية والشخصيات الاعتبارية من المثقفين وفترت فيه الكثير من العلاقات الدوليّة وأوّلها المؤسسات المالية العالمية بشكل يهدّد الايجابي من سيناريوهات ما بدأنا به المقال من احتمالات 'التعويل على الذات' التونسية التي لو خسرت ثقة تلك المؤسسات الغربية وفشلت في ايجاد بديل لها في الجهة الشرقية سوف تجد نفسها في وضعية انسحاقية لا يحوي 'مشروع' السلطة الحالية رافعات صمودها لأنه لم يقدم على اصلاحات اقتصادية جذرية تستنهض طبقات وفئات اجتماعية شعبية ووسطى واسعة تعيد صهر ' الاقتصاد و المجتمع 3 ' عندما كان 'الحديد ساخنا' ، وسيعجز أكثر فأكثر عن القيام بذلك كلما فترت الهالة الكاريسمية ومتى لم يقع التدارك مع النخب السياسية والنقابية والمدنية والاقتصادية والثقافية والاعلامية .
وبالعودة الى 'البورتريه السوسيولوجي ' أعلاه يمكن القول إن صنف الفعل 'العقلاني القيمة' ليس سلبيّا ولا مرفوضا في حدّ ذاته بل قد يكون مطلوبا في مراحل أو ميادين معينة، ولكنّه يعاني مشاكل حقيقية في معالجة ما يتطلب فعلا 'عقلاني الهدف' هو اليوم ، من سوء حظنا، 'عقلانيا أداتيا نيوليبيراليا ' مهيمنا بامتياز . وإن صنف الشرعية الكاريسمية ليس سلبيا و لا مرفوضا في حدّ ذاته بل قد يكون مطلوبا حتى في التاريخ الحديث و المعاصر بشرط أن يحسن الانتقال الى الشرعية القانونية العقلانية التي،مع الأسف ، تأخذ اليوم - في أحسن حالاتها المهيمنة - شكل الديمقراطية التمثيلية الليبيرالية بامتياز.
وهكذا،أخيرا، ليس أمامنا في تونس اليوم - بدءا بالسلطة نفسها - سوى الاصلاح ثم الاصلاح ثم الاصلاح. وللاشارة ،واللبيب من الاشارة يفهم :
لقد كان ماكس فيبر نفسه ضمن الوفد الألماني الذي ذهب الى باريس للإمضاء على اتفاق استسلام ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى .
المراجع :
1-
Raymond Aron, Max Weber, dans Les étapes de la pensée sociologiques, Paris, Gallimard,1967, pp.497-583.
2-
جوليان فروند، سوسيولوجيا ماكس فيبر، بيروت ، مركز الانماء القومي،ترجمة جورج أبي
صالح. د.ت.
3-
'الاقتصاد و المجتمع ' هو عنوان أهم كتاب لماكس فيبر وأستعمل العبارة هنا عمدا للربط بين السياسة والاقتصاد والمجتمع بروحية تركيبية بورديوزية (نسبة الى بيير بورديو) و تجنبا للنقاشات البيزنطية بين المادية و المثالية في التعامل مع فكر ماكس فيبر الذي لم أعتمده هنا الا بشكل إجرائي مع أنه ، على خلاف ما يتهم به سطحيّا ، كان قد كتب،مثلا، في 'الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية' ، بيروت ، نفس الناشر ونفس المترجم، د.ت :
"هل من الضروري الاحتجاج على أن هدفنا ليس أبدا استبدال تحليل سببي 'مادّي' حصرا بتأويل روحاني للحضارة و التاريخ، تأويل لن يكون الا كغيره أحادي الجانب؟ كلاهما أمر ممكن ؛ يبقى أنه في حدود ما يتجاوزان دور العمل التحضيري ويدّعيان التوصل الى استنتاجات ، فأن كلا منهما يسيء الى الحقيقة التاريخية." (ص.149)