مقدّمة:
بعد نشري لمقال بعنوان "حمة الهمامي وقيس سعيد :أسئلة الى الرفاق في حزب العمال" يوم 18 فيفري الحالي ولمقال ثان بعنوان" اليسار التونسي و الموقف من قيس سعيد : مسودة أطروحات" يوم 21 فيفري، لاحظت - في مقابل "صمت" الرفاق من حزب العمّال- 'تحمّسا' للمقالين -تعليقا وتوزيعا- من قبل بعض الرفاق من حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد. ولكنّ هذا 'الحماس' الظاهر لم يقنعني الا بوصفه مواقف شخصية من قبل أصحابه في مقابل ما أعتبره "ضياعا موقفيّا " لحزبهم من مسألة الصراع السياسي الدّائر الآن في البلاد بدليل أن الحزب لم ينشر في المدّة الأخيرة بيانات حول ما يدور في تونس.و من بين اسباب هذا 'الضياع الموقفي' حسب رأيي مشكل في تقييم ظاهرة قيس سعيّد ظهر في صفوف الوطد الموحّد منذ الدور الثاني للانتخابات الرئاسية عبّر عنه الاختلاف بين موقف الحزب الرسمي المساند لانتخاب قيس سعيد وقتها في مقابل رفض بعض قياداته وبعض كوادره الوسطى ومناضليه ذلك الموقف الحزبي علنا -وأهمهم الرفيق منجي الرحوي . ولكن ما هو أهمّ من ذلك تعبيرا عن "الضياع الموقفي " حسب رأيي يظهر -مثلا وليس حصرا أو أساسا - في مقال نشره الرفيق زياد لخضر في نشرية "الدرب" التابعة للحزب في عددها المزدوج الثالث و الرابع لشهر جوان 2020 و الحامل لعنوان " أزمة البورجوازية الكمبرادورية أم أزمة النظام السياسي " وهو ما سنهتم به الآن.
- من "الهوية و البرنامج" ( 2013) مرورا بمهدي عامل وصولا الى قيس سعيّد (2020)
في كتيّب حزب الوطد الموحّد الحامل لعنوان " حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد: الهوية و البرنامج " الصادر عن الحزب في ماي 2013 يكرّر الحزب تعريفه لما يسمى 'طبيعة المجتمع' بأنه "شبه مستعمر شبه اقطاعي" . ولا يوجد حسب علمي ما يناقض ذلك في ما نشر بعده حول هذه المسألة التي تعتبر مسألة من مسائل"الهويّة" التي تميّز التيار الوطني الديمقراطي في تونس في مقابل تيارات يسارية أخرى.
ولكن في مقال الرفيق زياد لخضر المذكور أعلاه يلاحظ القارئ العارف بأدبيات اليسار العربي التي اثرت في اليسار التونسي كون العنوان نفسه هو عبارة عن استلهام من عنوان الشهيد مهدي عامل في كتابه " أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات العربية" . وليس المشكل في الاستلهام من عناوين كتب المفكرين طبعا بل المشكل في ما قد ينتج عنه من سحب مقولات وتحاليل فكرية وسياسية واسقاطها على تونس الى درجة تأثيرها السلبي على المواقف السياسية للحزب 'هنا و الآن' و هذا ،مع الأسف،ما أعتقد أنّه حصل.
يكمن اصل المشكل حسب رأيي في اسقاط تحليل مهدي عامل على الواقع في تونس - بما يخالف "هوية" الحزب اصلا- ويتمظهر -جزئيّا فقط - في تحليل الواقع السياسي وتطبيقه على قيس سعيّد مثلا.
انّ مهدي عامل يدافع عن أطروحة اقتصادية مخالفة لما يسمى" الهوية والبرنامج" عند حزب الوطد الموحّد و غيره من الوطنيين الديمقراطيين في تونس. انّه ،من خلال كتاب " في نمط الانتاج الكولونيالي" ، يدافع -بلغة اليسار التونسي- عن قراءة لطبيعة المجتمع بحيث يمكن وصفه بأنه "رأسمالي تابع" أو "شبه مستعمر رأسمالي " أو بلغة مهدي عامل "رأسمالي كولونيالي" لأنّه يقول بوجود نمط انتاج تسيطر فيه "البورجوازية الكولونيالية" تحديدا حتى وان اعترف بوجود بقايا ما قبل رأسمالية في المجتمع.
و من المفارقة في تونس أن أكثر من كان له ولع بمهدي عامل عندنا هم مناضلو التيار الوطني الديمقراطي - وكان الرفيق شكري من المولعين به كثيرا - رغم أن تحاليله تناقض "هويتهم" تماما. وليس المجال هنا لتحليل مستفيض للمسألة النظرية الاقتصادية اذ أن ما أردت التنبيه اليه هو وجود هذه التناقض المفارق الذي ستكون له انعكاسات سياسية كما يحدث الآن.
ففي مقال الرفيق زياد لخضر " أزمة البورجوازية الكمبرادورية أم أزمة النظام السياسي" يحلّل الرفيق زياد أزمة البلاد وقتها (ماي-جوان 2020) على أساس أن "أزمة النظام السياسي" نفسها هي تعبير عن "أزمة البورجوازية الكمبرادورية (1) " تحديدا.
كتب الرفيق زياد مثلا :
" أدى تفاقم تناقضات النظام السياسي الى التسابق لطرح مبادرات عديدة بحثا عن حلول قبل ان يسقط هذا النظام برمته, حلول أتت في رأينا من وجهة نظر الطبقات السائدة لتجاوز تعدد مواقع السلطة والنفوذ (مراجعة النظام السياسي )وضمان وجود أغلبية قادرة على الحكم وتمرير ما تريد من قوانين في البرلمان (مراجعة القانون الانتخابي) . فنتائج الانتخابات التي لم تمكن من حسم أزمة التمثيل السياسي للتحالف الطبقي الحاكم ، أجّجت الصراع بين الأحزاب الطّامحة لذلك وعلى رأسها حركة النهضة , رغم تراجعها وانحسار هوامش المناورة أمامها ,و الدستوري الحر الذي يريد استعادة المكانة التي خسرها التّجمعيون في سياق المسار الثوري . يضاف الى ذلك الصراع المفتوح بين رئيس الجمهورية وحركة النهضة ؛ فالرئيس يريد أن يستغل حجم الثقة والوزن الانتخابي الذي حصل عليه من أجل توسيع مجال تحركه رغم الصلاحيات الضيقة التي يمنحه إياها الدستور فيما أنصاره يضغطون لتنفيذ برنامجه وصولا للدعوة الى حلّ البرلمان, في ما تتمسّك حركة النهضة بشرعيتها ونفوذها في البرلمان الذي بدا مهدّدا لحظة سقوط حكومة الجملي وتشكيل حكومة الفخفاخ وهوما دفعها الى تشكيل تحالف برلماني مواز للتحالف الحزبي الذي يسند الحكومة. " (انتهى الاقتباس)
نلاحظ هنا ثلاثة أمور من المهمّ الانتباه اليها:
أ- الرفيق زياد يتحدث في العنوان عن "أزمة البورجوازية الكمبرادورية" ولكنه في الفقرة أعلاه -و المقال عموما- يذكر "عبارات مثل "الطبقات السائدة" و "التحالف الطبقي الحاكم" بما يعني أن تحليله يتأرجح بين مهدي عامل الذي يقول بسيطرة البورجوازية الكولونيالية -المسماة هنا كمبرادورية- وبين التحليل الكلاسيكي للوطنيين الديمقراطيين التونسيين القائل بوجود "تحالف طبقي" حاكم يتكون من البورجوازية الكمبرادورية و الملاكين العقاريين أشباه الاقطاعيين .
ب- نلاحظ في الفقرة أعلاه ادراج أزمة الحكم التي تعانيها حركة النهضة ضمن 'أزمة البورجوازية الكمبرادورية" من ناحية و "التحالف الطبقي" من ناحية ثانية .و هنا يحيل العنوان و الخيط التحليلي الأساسي الى ما يشبه التحول الفكري الذي يعتبر الاسلام السياسي لم يعد ممثلا لأشباه الاقطاعيين بل أصبح يمثل شقا من البورجوازية الكمبرادورية يمكن تسميته 'الشق الديني المحافظ' المختلف عن 'الشق الليبيرالي الحداثي' كما درج البعض على قول ذلك في صفوف اليسار واندرج حتى في وثائق صدرت عن 'الجبهة الشعبية' السابقة.
ج- في الفقرة أعلاه ادرج صراع قيس سعيد مع غيره من الأطراف السياسية الحاكمة في تونس ضمن ما سماه الرفيق زياد لخضر " أزمة التمثيل السياسي للتحالف الطبقي الحاكم" و بعدها بقليل في المقال أضاف تأثير "احتدام الصراع بين المحاور الاقليمية الرجعية وانعكاسه في الساحة السياسية التونسية" مما يعني ادراجه قيس سعيد ضمن حركة "الاصطفاف" المنحازة الى هذا الطرف الخارجي أو ذلك.
ان التردد بين التحليل تارة بأزمة 'البورجوازية الكمبرادورية' وحدها و طورا بأزمة 'التحالف الطبقي الحاكم' الذي يفترض منطقيا وجود طبقة (أو طبقات) اجتماعية حاكمة أخرى يعبّر هنا عن مشكل نظري-سياسي كبير.
من ناحية ثانية، اذا كان قيس سعيّد يعتبر جزءا من القوى السياسية الممثلة لما يسمى 'التحالف الطبقي الحاكم" الذي له 'اصطفاف' اقليمي ودولي رجعي و يعيش 'أزمة تمثيل سياسي" فكيف يفسر الحزب مساندته لقيس سعيد في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية؟
من ناحية ثالثة،يهمل هذا التحليل امكانيات ظهور أجنحة وطنية-اصلاحية -على الأقلّ- في صفوف الطبقات و الفئات و النخب التونسية عند مراحل الاختراق الديمقراطي اللاحقة للانتفاضات والمسارات الثورية ويتجاهل ذلك في حين أنّه قد يكون من بين وسائل تحليل الفعل السياسي لأمثال الرئيس قيس سعيد وأحزاب مثل حركة الشعب و التيار الديمقراطي حاليا وقبلهما حزب المسار والحزب الديمقراطي التقدمي وغيرهما - في حكومات سابقة - ويضع جميع من شارك في الحكم بأي درجة كانت ضمن "الثورة المضادة" بما في ذلك وزراء كانوا مؤسسين في الحزب نفسه - الرفيق عبيد البريكي- ويؤدّي ذلك الى مواقف "يسراوية" لا تخدم اليسار في علاقته بالقوى اليسارية و الوسطية المختلفة التي يجب كسبها -أو على الأقل تحييدها- بل تعزله عنها و خاصة عن جماهيرها.هذا مع العلم أن الحزب- وغيره من قوى اليسار- كثيرا ما يعود الى التنسيق النضالي مع من سبق له أن وصفه بالثورية المضادة و ينسق -برلمانيا- مع مجموعات برلمانية مختلفة يتهم بعض أحزابها بكونها من "البورجوازية الكمبرادورية" أو من "التحالف الطبقي الحاكم".
وهكذا، نعتقد أن الاختلاف بين قيادات الحزب في الموقف من الدور الثاني للانتخابات الرئاسية وصمته الأخير عن اصدار مواقف رسمية واضحة من الأزمة السياسية الحالية وتردد نائبه في موقفه من الكتل البرلمانية ينتجون في الحقيقة عن تردّد تحليلي نظري وسياسي كبير يجب حسمه وتوضيحه حتى لا يبقى رهين ردود فعل على قوى سياسية يمينية بعينها (النهضة مثلا) أو يسارية مخالفة بعينها (حزب العمال مثلا) ،الخ .
عوضا عن الخاتمة:
حتى لا يحصل مع هذا المقال كما حصل مع سابقيه من استحسان "ضرائري" داخل صفوف اليسار أختم بالقول انّ ما يعيشه الوطد الموحّد في علاقة بقيس سعيد و غيره لا يختلف عن غيره من قوى اليسار التونسي الكبرى -القوى المجهرية غير معنية هنا-. فحزب العمّال مثلا كان يعتبر الدستوريين و الاسلاميين فاشييين ثم تقاطع مع الفاشية الاسلامية ضد الفاشية الدستورية( في حركة 18 أكتوبر) ثم مع سليلي 'الفاشية الدستورية' ضد الاسلاميين في 'جبهة الانقاذ' .
بل وان الرفيق حمة الهمامي سبق له أن اعتبر أنه : " اذا كان للتيار الناصري بعض الجوانب المعادية للامبريالية فانّ التيار البعثي ليس سوى ممثل للبورجوازية الكمبرادورية ولبورجوازية الدولة و البيرقراطية العسكرية المرتبطة بألف خيط وخيط بالامبريالية العالمية…" ( حمة الهمّامي ، ضدّ الظلامية، دار صامد ، الطبعة 3 ،1989، ص.140…) (2) مما جعله يقول لاحقا (ص 142) في نفس الكتاب أن الناصرية هي تقريبا ممثل 'البورجوازية الوطنية-القومية' (التي يسخر حزب العمال من وجودها في تحاليل 'الوطد ' سابقا ) ولكنه في 'الجبهة الشعبية" و الآن يتحالف مع بعض الناصريين (ممثلي البورجوازية الوطنية-القومية حسب رأيه) و بعض البعثيين (ممثلي الكمبرادور حسب رأيه) .
كما أن حزب العمّال الذي يشدد نقده ضد قيس سعيد بسبب شعبوية الأخير تحالف ولا يزال يتحالف مع أجنحة من العائلة الوطنية الديمقراطية نفسها التي كان يصفها تحديدا بالشعبوية (والفوضوية،الخ) بسبب قراءتها لطبيعة المجتمع "شبه المستعمر-شبه الاقطاعي" وقولها بوجود دور كبير للفلاحين في الثورة الوطنية الديمقراطية.
المراجع: