1- من معاني الشعبوية من منظور اليسار التاريخي اعتبارها الفلاحين القوة الثورية الأساسية في الشعب والثورة بسبب ظروف حياتهم الرديئة وعددهم الكبير. ومن نقاط نقدها الأساسية عند اليسار أمران : الأول هو أن الشعبوية تغفل البروليتاريا كقوة صاعدة جديدة وتهتم بقوة آفلة هي بصدد الانقراض التدريجي مع تطور التراكم الرأسمالي، و الثاني هو إغفال عملية التمايز داخل الفلاحين أنفسهم لأن قسما منهم يرتقي الى صفوف البورجوازية الزراعية الوسطى والكبرى،والقسم الآخر ينزل الى صفوف البروليتاريا الزراعية وصفوف العاطلين عن العمل .
2- في المقابل، و منذ 'البيان الشيوعي' ، كتب ماركس : " ان ميزة عصرنا،عصر البورجوازية،مقارنة ببقية العصور، هي أنه يبسّط التناقضات الطبقية. فباستمرار،ينقسم المجتمع الى معسكرين كبيرن من الأعداء؛ الى طبقتين كبيرتين تتواجهان مباشرة : البورجوازية و البروليتاريا." وأضاف لاحقا في نفس المصدر متحدّثا عن ظروف العمال :
" حتى في الاقطاعية تمكن القن من أن يصبح عضوا في المجتمع...في المقابل، بعيدا عن الارتقاء مع تقدّم الصناعة ،ينزل العامل الحديث أسفل،أقل حتى من ظروف طبقته.يصبح العامل مفقّرا،وان الافقار يتطور بنسق أسرع حتى من نمو السكان و الثروة. "
3- إن الماركسية،حسب فرضيتنا هنا،هي بصدد التحول التدريجي منذ مدّة الى شعبوية بروليتارية وذلك،تقريبا، بنفس الآليات التي عرفتها الشعبوية الفلاحية في آخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ولكن لأسباب تاريخية أخرى وفي اتجاهات تاريخية أخرى خاصة بنهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين.
4- إن تطور الرأسمالية المعاصرة لم يبسّط بالشكل الذي حلله ماركس التناقضات الطبقية بحيث ينقسم المجتمع الى طبقيتين فحسب (البورجوازية و البروليتاريا) بل أن ما وقع هو العكس : ان أعداد البورجوازيين و البروليتاريين على السواء ما انفكّت تميل الى التناقص لسببين مختلفين : يتناقص عدد البورجوازيين ،نسبيا ، بسبب الميل العام الى تمركز الثروة في ايدي قليلة أكثر بسبب تطور عملية التراكم الرأسمالي نفسها . ولكن في المقابل يتناقص حجم البروليتاريا الصناعية والزراعية الكلاسيكي نفسه بسبب التطور التكنولوجي للقطاعين الصناعي والزراعي من ناحية ، وبسب تطور قطاع الخدمات الجديدة من ناحية ثانية. و من بين النتائج الأخرى لهذه العملية هو أن الطبقات الوسطى لم تندثر لتترك المجال الى طبقتين متواجهتين-كما توقع ماركس - بل ظهرت طبقات وسطى جديدة مرتبطة بمهن جديدة ناتجة عن تطور قطاعات اقتصادية جديدة غير تلك الصناعية والزراعية والتجارية الكلاسيكية التي عرفها ماركس .إن العمال لم ينقرضوا طبعا،بل و جرت عملية اعادة انتشار عالمية لهم مع تسارع عملية تدويل الرأسمالية، ولكن عددهم في كل بلدان المركز الرأسمالي تميل الى التناقص خاصة مع الثورات التكنولوجية الجديدة المرتبطة بالأتمتة الروبوطية و الحاسوبية /الاعلامية. وبالامكان،حتى وفق ماركس ،توقع توسع نفس الميل وانتشاره عالميا لأن الرأسمالية تعيد تشكيل العالم كله على صورتها كميل عام فحسب ،طبعا ،وبوتائر مختلفة بين المركز والمحيط ، طبعا.ولكن من المهم الاشارة هنا إن العملية في المحيط العالمي سوف تمرّ بمرحلة القاء مئات الملايين من العمال والفلاحين في صوفو العاطلين عن العمل قبل أن تواصل طريقها لاحقا 'كما' تطورت الرأسمالية المحيطية بشكل مختلف عن تطور رأسمالية المركز في السابق.
5- من جهة أخرى، وباستثناء مراحل الأزمات الحادّة التي تعرفها كل مراحل التاريخ البشري وليس الرأسمالية فحسب ، يمكن القول إن نظرية ماركس في الافقار (النسبي والمطلق) تخالف الميل العام للتطور التاريخي . فعلى عكس القول بأن 'العامل الحديث ينزل باستمرار أسفل حتى من طبقته ليصبح مفقرا '، وأن 'عملية الافقار تتطور بنسق أسرع من تطور السكان والثروة' ، تبين أن القانون الأساسي الذي يعبّر عن الميل العام في كل عصور التاريخ -بما فيها عصر البورجوازية الذي استثناه ماركس عمدا- هو الميل العام لتحسن ظروف الحياة النسبي بما في ذلك للبروليتاريا ..أو تحديدا لما يبقي موجودا منها مع تقدّم التاريخ.
6- ومن ناحية أخرى، بسبب تعميم و تطور التعليم والتكوين المهني خاصة ،وعلى عكس رأسمالية عصر ماركس، أمكن للملايين من أبناء العمال مغادرة مصير البلترة الكلاسيكي القديم والارتقاء الطبقي نحو صفوف كل من 'الارستقراطية العمالية' -التي انتبه الى ظهورها ماركس وخاصة أنجلز أواخر حياتهما- وصفوف البورجوازية الصغرى الجديدة بل وحتى صفوف البورجوازية ولكن بنسب أضعف بكثير طبعا.إن تطور الرأسمالية ، وتطور النضال ضدّها من قبل العمال أنفسهم ،في نفس الوقت، غيرا ،نسبيّا على الأقل، وضعية العائلة البروليتارية التي كانت الخزان الديمغرافي والاقتصادي-الاجتماعي للطبقة العاملة التقليدية على الأقل بالشكل الذي رسمه ماركس للعائلة البروليتارية في أواسط القرن التاسع عشر.وهذا يعني أن أعدادا من البروليتاريين وأبنائهم يرتقون اجتماعيا ولا يتم تفقيرهم النسبي والمطلق بالشكل الذي رسمه ماركس .
7- اضافة الى ذلك - بالعودة الى ظروف حياة الطبقة العاملة نفسها - فإنه يمكن القول إن التطور الرأسمالي ارتبط بالتحسن التدريجي النسبي لظروف عمل وحياة الطبقة العاملة بحيث ،باستثناء مراحل الأزمات الحادّة، يمكن الحديث عن قانون الميل الى 'الاثراء المطلق' وليس 'الافقار المطلق' حتى عند البروليتاريا نفسها ، ولكن على شرط عدم اعتبار ذلك مناقضا لفكرة 'الافقار النسبي' التي تتم في الأزمات والتي ترتبط في المقابل بالإثراء النسبي للبورجوازية من حيث حصولها على قسم أوفر دائما -من حيث النسبة- من الدخل الوطني للمجتمعات والدخل العالمي للإنسانية.
إن مرور أسبوع العمل -في فرنسا مثلا- من 84 ساعة سنة 1848 الى 70 ساعة سنة 1900 الى 48 ساعة سنة 1919 الى 40 ساعة سنة 1936 الى 35ساعة سنة 2002 -وصولا حتى تجريب أسبوع العمل بأربعة أيام الأن في بعض الدول الأخرى- يعني ،حتى بالمنطق الماركسي الكلاسيكي، ارتفاع نسبة الأجر داخل 'قيمة قوة العمل' باعتباره يعادل ' مجموع البضائع -المادية والخدماتية- الى يحصل عليها العامل لتجديد حياته هو و عائلته ' بما يعني ليس 'الافقار' بل 'الاثراء' المطلق و- احيانا- النسبي رغم اختلاف الأمر في مراحل الأزمات طبعا ، ورغم التناقض الذي يبقى قائما بين البورجوازية والعمال بسبب وجود الملكية الخاصة لوسائل الانتاج المادية والمعنوية والذي يمكن الأولى من استغلال الثانين .
وإن تحسن الأجور الفعلية والاسمية (خارج مراحل الأزمات 'الدورية' ) وتحسن ظروف التغذية واللباس والسكن و الصحة والرياضة والتعليم والتكوين المهني و التثقيف والترفيه هو ميل تاريخي عام يميز حياة العمال - يعود الجزء الأكبر منه الى نضالهم دون شك- تتأقلم معه الرأسمالية دون أن تعرف لا ميلا عاما لانخفاض معدلات الأرباح 'ولا هم يحزنون' لأن البورجوازية،على العكس، أصبحت تحقق الأرباح الطائلة حتى من المؤسسات المأتمتة كليا تقريبا حيث لا يوجد عمال أصلا بل،فحسب، مهندسون وتقنيون ينسبون ماركسيا كلاسيكيا الى البورجوازية الصغيرة التي لا تنتج فائض القيمة أصلا، وهذا، بالمناسبة ولأسباب أخرى مرتبطة بالعولمة وغيرها، دفع سمير أمين ،مثلا، في كتبه الأخيرة -مثل 'نقد روح العصر'- الى الاعتراف بالقصور النسبي في 'نظرية القيمة' الماركسية التقليدية نفسها ،ولكن،دون أن يلغيها رغم الانتقادات الكبرى التي تعرضت اليها من قبل مدارس الاقتصاد السياسي الكلاسيكية الجديدة ومدرسة 'المارجينالية' ( نظرية 'الاستعمال الحدّي ' ) وأطروحة ألفيرد مارشال التأليفية ثم 'مدرسة التعديل' ('لا ريقولاسيون' ) ،الخ .
…
خاتمة :
يمكن القول اذن إن التصور الماركسي الكلاسيكي عن العمل والعمال في اطار الرأسمالية هو -بعد كل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية الحديثة والمعاصرة - بصدد التحول التدريجي الى نظرية 'شعبوية بروليتارية' لأنه يفشل بالتدريج في مقاربة تحولات وزن وأهمية العمال في التاريخ الحديث والمعاصر بحيث لا ينظر اليهم -تاريخيا وبصورة مركّبة - ك"شكل تاريخي من الطبقات الشعبية" -على رأي ألان توران- بل بصورة تبسيطية و كوارثيّة/ وخلاصية- كطبقة اجتماعية تزداد عددا و فقرا ووحدة ووعيا ونضالا باستمرار تاريخي عام مما يعطيها دورا 'رسوليا-خلاصيا' من النظام الرأسمالي في حين إنها ،مثل فلاحي الشعبويين القدامي، بصدد التناقص العددي (في المركز الآن أساسا ) والتمايز الداخلي صعودا -بالاثراء - ونزولا -بالبطالة - و خروجا -نحو البورجوازية الصغيرة الجديدة- ، وهذا رغم أنها لا تزال الى اليوم مؤهلة أكثر من غيرها على المقاومة المنظمة للرأسمالية بحكم موقعها عموما وحتى بحكم عددها أحيانا -على المستوى العالمي خاصة ولكن ليس حصرا - ولكن ،كما يلاحظ الجميع موضوعيا : ليس بقيادة ماركسية تقليدية - ينطبق على تمثلها للماركسية التصنيف البوبري (نسبة الى ك.بوبر) للنظرية غير القابلة للدحض - بل بقيادات وتصورات عمالية ويسارية جديدة لا تزال 'تجريبية' وحتى ' شعبوية يسارية' لم تبلور بعد مشروعها ل''ما بعد الرأسمالية '' و ''ما بعد الماركسية ' في نفس الوقت .. وهنا أزمتها وأزمة الانسانية الكبرى ،الأزمة التي تعطي ' الوحوش الضارية 'عندما 'لا يموت القديم 'و 'لا يولد الجديد' في نفس الوقت ، كما قال ذلك غرامشي ،و التي يساهم الماركسيون التقليديون في استمرارها بعدم البحث عن التجاوز الايجابي إما بسبب المصلحة الايديولوجية و التنظيمية - عند المستفيدين المثقفين الحزبيين والنقابيين والأكاديميين العارفين منهم - وإما بسبب القوة الايطيقية الرهيبة الكامنة فعليّا في الماركسية على عكس الرأسمالية (والتي اثنى عليها مثلا م. رودنسون) - عند الضحايا النزهاء و غير العارفين من المثقفين والمناضلين - الذين لن يثنيهم عن ذلك ، على الأرجح ، الا تبلور بديل يساري أنسني جديد يعادل الماركسية ثوريا و ايطيقيا و يخالفها فكريا وسياسيا.