-1-
-كل تحليل "جيو-استراتيجي" لا يتساءل حول الطبقات و النخب والسلط المهيمنة في البلدان المتحاربة -والتي تسندها - هو استسلام منهجي للأمر الواقع الرأسمالي وانخراط في حروبه القذرة.
- ولكن أي تحليل طبقي-نخبوي مضادّ لا يأخذ بعين الاعتبار هذا الواقع الجيو-استراتيجي بوصفه واقعا هو قفز منهجي عن هذا الأمر الواقع وانخراط في نزعة سلموية انسانوية أوثورجية طهورية…
-و لا حلّ اذن الا بمحاولة الجمع بين الأمرين لفهم العالم الحالي وتغييره معا - أو على الأقل تقديم بذور أفكار تساهم في عدم الاستسلام له ولحروبه.
2-
- كلّ تحليل طبقي-نخبوي للحرب يكتفي بمقاربة اقتصادوية للمسألة بحجة أن الحرب ماهي-في التحليل الأخير-سوى ' مواصلة للسياسة بطرق أخرى' و أنّ السياسة نفسها ما هي إلاّ 'تعبيرة مكثفة عن الاقتصاد' لم يعد يكفي عموما ولا يكفي لتحليل الحرب الروسية الأوكرانية تحديدا.
-ولكن ذلك لا يعني السقوط في تحليل يهمل الرهانات الاقتصادية بوصفها قطب الرّحى الرأسمالية بشرط تذكّر أنّ 'قطب الرّحى ' لا يختزل الرّحى نفسها . ورحى الحرب الحالية تتموقع في سياق تاريخي (عولمي ما بعد سوفياتي ...) وفضاء جيو-استرايجي (أورو-آسيوي) وحتى اثني/قومي (سلافي/روسي/اوكراني) وديني ( مسيحي ارثوذكسي)…
-وإنّ أفضل مقاربة للحرب هي المقاربة المركّبة التي تعتبرها 'ظاهرة اجتماعية كلّيّة' ولكن ذات حامل اقتصادي-سياسي (رأسمالي-قومي) قويّ جدّا وعدم نسيان هذا الحامل جيّدا لتجنب السقوط في تحليل 'حضاري' أو غيره.
3-
-كلّ تحليل (حول مسألة الأحاديّة/التعدّدية القطبية) ينسى الفرق بين الاتحاد السوفياتي السابق وروسيا الفدرالية الحالية ويسحب نتائج التعددية القطبية السوفياتية/الأمريكية السابقة على التعددية القطبية الروسية/الأمريكية الحالية هو تحليل أخرق ينسى تحول روسيا الى بلد رأسمالي قومي ويستسلم للدعاية الروسية الحالية التي تحاول جهدها لتغطية أهدافها القومية من خلال التذكير بالتواريخ السوفياتية القديمة واعلان الحرب ضدّ النازية الأوكرانية الجديدة .
-ولكن كل تحليل ينسى الطابع القومي اليميني المتطرّف للسلطة الأوكرانية وعلاقتها الذيلية بالغرب الأطلسي يسقط في الوهم الأمريكي المضاد الذي يصور الحرب وكأنها بين 'الديمقراطية الغربية' و'الاستبداد الشرقي 'الروسي المسنود صينيا .
- كل تحليل لا يتمايز مع 'الخطاب السوفياتوي' القومي الروسي ومع 'الخطاب الديمقراطوي' الأوكراني -الغربي هو تحليل ساقط ولا يعوّل عليه ويهمل مسألة أساسية هي :التعددية القطبية المنشودة الآن هي تعددية رأسمالية.
4-
-كلّ تحليل يبالغ في ايجابيات التعدّدية القطبية الرأسمالية (روسيا ليست الاتحاد السوفياتي) في مقابل الأحادية القطبية الرأسمالية هو تحليل يجهل التاريخ الاجرامي الرأسمالي نفسه في مراحل هيمنته الثنائية أو الأحادية وذلك من النهضة الايطالية -الهولندية مرورا بالهيمنة الاسبانية -البرتغالية ثم الهيمنة البريطانية -الفرنسية ثم محاولة صعود ثالوث ايطاليا-ألمانيا-اليابان ثم صعود الولايات المتحدة الأمريكية وصولا الى محاولة صعود روسيا الرأسمالية القومية اليوم.
-كل تحليل 'جيو-استراتيجي' ينسى أن المراوحة بين الهيمنة الأحادية أو الثنائية - أو بين أي شكل آخر من التعددية القطبية -اذا كانت رأسمالية تحديدا، ليست سوى مراوحة بين تقسيم للعالم واعادة تقسيم له الى مناطق نفوذ لهذا القطب الرأسمالي الاستعماري -أو الاستعماري الجديد - أو ذاك، هو تحليل لا صلة له بتاريخ الرأسمالية الحديثة منذ 1492 الى اليوم : أي منذ 530 سنة !
-ولكن كل تحليل لا ينتبه إلى كون هذه التغيرات في موازين القوى هي تغييرات يمكن أن تساعد -بوصفها واقعا موضوعيّا تخلقه الرأسمالية نفسها- على اقتناص فرص تاريخية للشعوب -دون انخراطها في ذلك الصراع الموضوعي- لمراكمة مكاسب على حساب أي كان من القطب أو الأقطاب المتصارعة، هو تحليل لا صلة له بتاريخ مقاومة الرأسمالية الحديثة في مركزها وفي أطرافها على السواء.
5-
-كل تحليل ينسى كون التعددية القطبية الرأسمالية العالمية التي تقع عبر'المزاحمة غير الحرّة' بين الأقطاب الرأسمالية يكون من نتائجها الاعتداء إما على مناطق حرّة سابقة (قبل الانتهاء من تقسيم العالم بين الاستعماريين) أو على مناطق تابعة للقطب القديم (بعد الانتهاء من تقسيم العالم منذ بداية القرن العشرين) وكون أوّل المتضرّرين تاريخيا قبل و منذ انتهاء تقسيم العالم هم جيران القطب الجديد ( أمثلة أنقلترا/ايرلندا ، أمريكا/المكسيك ، إيطاليا/ألبانيا، المانيا/النمسا ، اليابان/ منشوريا...واليوم روسيا/ أوكرانيا ) هو تحليل ساقط جزئيّا على الأقلّ.
- ولكن كل تحليل لا ينتبه الى امكان الاستفادة من ذلك رأسماليّا - بالقرب من المراكز الكبرى ولكن شرط عدم الالحاق التامّ بقطب ضدّ الآخر- كما تدلّ على ذلك بعض تجارب 'الحياد' و 'عدم الانحياز' وغيرها،هو تحليل عاجز أيضا، بشرط فهم جدلية التفاعل بين توازن العنف الرأسمالي (بين الأقطاب) و السلم الرأسمالي بينها،بحيث تبقى تجارب تلك البلدان 'المحايدة' و 'غير المنحازة' هشة دائما ومرهونة بموازين قوى خارجها غالبا ،وهي موازين قوى موازية أحيانا بحيث تكون تلك البلدان 'المحايدة' أو 'غير المنحازة' أو 'العازلة' مهربا ضريبيا للجميع (سويسرا...) أو موطنا للمناظرة الايديو-سياسية و الديبلوماسية بينهم (فنلندا ،النمسا ...) 'خارج' دائرة النزاع الذي لا يذهب غالبا الى حدّ الابادة النهائية (أو السعي اليها) الا تجاه الشعوب الضعيفة جدّا (الهنود الحمر، الفلسطينيون ).
6-
-كل تحليل يتناسى الفرق بين هذه الدول القريبة من المركز أعلاه (سويسرا،فنلندا،النمسا...) ودول ما يسمى 'العالم الثالث' بحيث يسحب على الأخيره مقاييس الأولى لا يفهم الفارق الجوهري بين العوالم الأولى والثانية والثالثة.و الفرق هنا ليس فحسب بسبب درجة التطور الرأسمالي و الموقع الجغرافي بل هو كذلك فرق عرقي/قومي ، ثقافي ، ذي نزعة غربية عموما الى حدّ اليوم ، بدليل أنّ أكبر أكذوبة في 'العالم الثالث' هي عندنا في الوطن العرب مثلا أكذوبة نهضة لبنان : سويسرا الشرق...مقابل ما تعرفه 'اسرائيل' تحديدا.
- ولكنّ هذا التحليل نفسه يحتاج تنسيبا -داخل الرأسمالية المحيطية نفسها- بدليل أمثلة كوريا الجنوبية وتايوان وسنغفورة .وهنا لا سبيل الى تناسي الصراع الغربي مع العملاق الصيني من ناحية و العملاق الياباني من ناحية ثانية لفهم الأمر، حيث يسمح لمثل هذه الدول و الدويلات بهامش تنمية 'جيو-استراتيجية' في اطار توازن رعب جهوي في العالم. ونفس الشيء حدث جزئيّا مع جنوب افريقيا التي لها خصوصية كبيرة حتى اثنيا/ثقافيا بسبب كونها كانت مستعمرة ديمغرافية جزئية أنجلو-هولندية.
- أمّا باقي دول 'العالم الثالث' فلا يمكنها أن تعوّل إلاّ على أنفسها أو على بعضها البعض ما أمكن للقيام باستثمار النزاعات الدولية والقيام بإنجازات وطنية إصلاحية أو ثوريّة في ظل سيطرة الرأسمالية. وهذا كان مختلفا طبعا عندما كان الاتحاد السوفياتي موجودا، مهما انتقدنا تجربته في علاقاته مع بلدان مثل كوبا أو مصر أوغيرهما...و لكن بشرط أن نعي الفرق بينه وبين روسيا الحالية أيضا...ولنعد الى الحرب الحالية وننظر اليها بعيون يسارية تونسية، ولكن أنسنيّة...أو أممية إن شئتم.
7-
-إن الحرب الروسية -الأوكرانية (وها اني ،عمدا، لا أقول الحرب الروسية على أوكرانيا أخذا بعين الاعتبار الاستفزاز الأوكراني منذ 2014 بتحريض غربي/أطلسي!) هي حرب بين الرأسمالية القومية الروسية الصاعدة كقوة امبريالية جديدة (والمستفيدة من كلّ من الميراث القيصري الاستعماري و من الميراث السوفياتي العابر للقوميات مع مركزية روسية ) و بين الرأسمالية القومية الأوكرانية التابعة للغرب والراغبة في الانفصال عن الهيمنة التاريخية الروسية ، وهي بالتالي حرب رجعية من الطرفين الحاكمين بالنظر الى من يهيمن على الحكومتين سياسيا ، ومضرّة بالعلاقات بين الشعوب الروسية والشعوب الأوكرانية التي -جميعها- تعيش في دول متعدّدة القوميات.
- وإنّ الرّهان على 'توازن الأقطاب' -اسنادا للموقف الرسمي الروسي- لا يختلف عن الرهان عن 'الديمقراطية' اسنادا للموقف الرسمي الأوكراني. إنّ الرّهان على 'التعددية القطبية' الراسمالية باسناد حرب قومية روسية ضد الشعب الأوكراني من أجل مصلحة تونسية هو زيادة عن كونه موقف رجعي سياسيا فهو موقف لا أخلاقي سياسيا يأمل في الاستفادة من 'التعددية القطبية' ل12 مليون تونسي بتدمير مقدرات شعب آخر يعدّ 48 مليون مواطن لصالح الطبقات و النخب الرأسمالية القومية المتنفذة في روسيا.
-وإن الرهان على 'الديمقراطية الأوكرانية ' القومية المتطرفة و المتصهينة و المرتبطة بالغرب الأطلسي -اسنادا للموقف الرسمي الأوكراني- من أجل مصلحة تونسية هو الآخر موقف رجعي ولا أخلاقي سياسيا لأنه يضمر الاستفادة من الغرب الأطلسي على حساب الشعب الروسي ذي ال 150 مليون مواطن و الذي لا أحد من العقلاء ينكر المخططات الغربية الرامية الى منعه حتى من النموّ الرأسمالي مثل الغرب -الطامع في ثرواته والساعي الى اضعافه على كلّ الصعد بما فيها حتى الجانب الثقافي والديني الذي قد يسم رأسماليته الخاصة وذلك بحثا عن عولمة ثقافية غربية و مغتربة- ضدّ ما يمكن أن تشكله الثقافات الخاصة من مخزون مقاوم للعولمة الرأسمالية حتى من منظور رأسمالي قومي خاصّ أصلا...وهذا بالمناسبة ما يدفع الرّوس الى الانغلاق القومي والثقافي والديني ويعبّر عنه بوتين وحزبه 'روسيا الموحّدة ' جيّدا .
كلمة أخيرة :
وهكذا، ومثلما إنّ تحليل الحرب لا يجب أن يكون أنتروبولوجيا (يكتفي بربط العنف بالبشر...) أو بسيكولوجويا (يربط العنف باللاوعي أو الغريزة ...) أو 'جغرا-سياسويا ' يكتفي بالنظر الى الأمر ضمن الخارطة 'الجيو-استراتيجية' الحالية دون البحث عن روابطها الاقتصادية و الاجتماعية وعن الطبقات و النخب المتسببة فيها - ولكن دون اقتصادوية سطحية وفقيرة ... - ، فإنّ الموقف المعادي للحرب الروسية-الأوكرانية وطرفيها ، اذن، ليس موقفا إنسانويا وأخلاقويا (كانطيّا أو غيره) ، بل هو موقف يساري أنسني /أممي - و لكن يساري أخلاقي/سياسي أيضا لأن اليسار ايطيقا أيضا - مبني على مقاربة للحرب ترى أنه ليس على اليساري أن يساند طرفا معيّنا في حرب رجعية بهذه الشاكلة، بل أن يقف ضدّها مبدئيّا -على الأقل فكريّا- في موقف معاد للحروب الرأسمالية الحديثة للقوى الرأسمالية القديمة والجديدة ، وليس عليه أن يفعل ذلك بأيّة ذريعة ، ناهيك إن كانت 'استغلال التناقضات بين الامبرياليات' التي لا تعني أبدا دعم اليساري لطرف فيها على حساب الآخر ،ذاتيا، بل ،فحسب ، استغلال تناقضاتها الموضوعية للدفاع عن الشعوب وصداقتها عبر الدعوة -التي هيهنا مجرّد فكرة فايسبوكية - الى ما يسمى 'الانهزامية الثورية' بحيث يجب أن يهزم الروس والأوكرانيون على السواء حكامهم ويبنوا عالما جديدا ليس فقط على أنقاض جرائم الرأسمالية الحالية بل وكذلك حتّى على أنقاذ أخطاء الاتحاد السوفياتي السابق نفسه و ذلك فق روحية وعقلية ومسلكية يسارية أنسنية جديدة تماما ...ستتأخّر كثيرا ...وقد لا تأتي ...فليس في الأمر حتمية تاريخية مستقبلية ...ولكن ذلك لا يبرّر الخضوع أمام الحتمية التاريخية الرأسمالية الحالية وجرائمها... وأفظعها الحروب .
هذه الحرب ليست حربي ... وليتني لأ أحتاج الى اسناد أي حرب في حياتي... ولكنّني أعرف أنّ التمنّي قد يفيد المستحيل !