الإهداء : إلى الفقيد العزيز سماح إدريس
الصّديق العزيز م. شريف الفرجاني ،
وأنت تقدّم كتابك "النيوليبيرالية والثورة المحافظة" في تونس، تمنيت أن أكون معك لأمارس 'ضدّك' الشغب الفكري المباشر الذي حرمتني منه المسافات و الذي لم أتمكّن من ممارسته كثيرا تعليقا على الصفحات الثمانين الأولى من المخطوطة التي أطلعتني عليها قبل أن تصبح نهائية مقابل عدم اطّلاعي بعد على الجزء الثاني من الكتاب حيث تحلّل أكثر مسألة أشكال الثورة المحافظة تحديدا .
أعرف أنّه كان عليّ الانتظار حتى الحصول على الكتاب وقراءته كاملا لأبدي رأيي حتى لا ينطبق عليّ قول 'هذا على الحساب قبل أن أقرأ الكتاب' ، ولكنّ متابعتي لتقديمك الكتاب مع الاعلامي حمزة البلّومي ثم مع الصديق نادر الحمّامي في جمعية 'فواصل' دفعني لكتابة هذه الأسئلة التي أتمنّى أن تأخذها بعين الاعتبار في تقديماتك القادمة ولم لا في مقالات قادمة.
---1- لعلّك تذكر نقاشا لك ذات يوم منذ أكثر من سنة مع الدّكتور حكيم بن حمّودة واختلافكما حول معنى مصطلح ' الثورة المحافظة '. كان الدكتور حكيم بن حمّودة يصرّ على التعريف الاقتصادي المتعارف عليه للثورة المحافظة و الذي يعني ببساطة الليبيرالية الجديدة نفسها ، بينما أنت تقدّم تعريفا آخر يندرج أساسا ضمن 'مبحث تاريخ الأفكار'. فلو طبّقنا التعريف الاقتصادي على المصطلح سيصبح عنوان كتابك في نظر الدكتور حكيم بن حمودة كأنّه يعني "النيوليبيرالية والنيوليبيرالية" (وهو عنوان لا معنى له حتما)،ولست أعرف هل أخذت بعين الاعتبار هذا الأمر ليس فقط من باب التفريق بين علم الاقتصاد و علم الاقتصاد السياسي - لأنّ هذا الأخير يمكّنك من عدم التوقف عند الجانب الاقتصادي - وبالتالي ادراج مبحث تاريخ الأفكار والذهاب فيه الى نهايته كما أردت لمقاربتك، بل كذلك زاوية النظر السياسية والاجتماعية السياسية. وسؤالي الشخصي هنا هو التالي :
هل حاولت الرّبط أيضا بين تاريخ الأفكار وعلم الإجتماع السياسي تحديدا بحيث لا تكون 'الثورة المحافظة' ثورة ' فكرية محافظة' فحسب، بل كذلك ثورة اجتماعية - سياسية محافظة أيضا؟
2- لعلّك تتساءل عن معنى هذا السؤال الافتتاحي وما أهمية الربط بين الاقتصاد السياسي و الاجتماع السياسي وتاريخ الأفكار كثلاثة اختصاصات يمكن البحث في كل منها بمعزل اجرائي عن الآخر ولكن يستحسن الوعي بالترابط بينها منهجيا و الاشارة اليه ولو في مقدمة الكتاب أو في خاتمته للتوضيح.
ولتبيان أهمية المسألة أشير الى ما يشبه التردّد عندك في علاقة بالاقتصاد السياسي الآن ثم سأركّز لاحقا على العلاقة بعلم الاجتماع السياسي.
في كتابك تمرّ على علاقة الثورة المحافظة بالنازية في ألمانيا و الفاشية في ايطاليا (وكنا ناقشنا بشكل شخصي مسألتي 'الأوردوليبيرالية' و كذلك الفرانكية في اسبانيا أيضا ) ولكنّك تبدو لي وقعت في ما يشبه التردّد لأنّك في كتابك وفي تقديماتك له تقول إنّ الشيلي في عهد بينوشي كانت "مخبر" العلاقة الأوّل بين النيوليبيرالية والثورة المحافظة رابطا ذلك بهاييك ومدرسة شيكاغو ورجالها الشيليين . وسؤالي هنا هو حول العلاقة بين الاقتصاد و السياسة و هو :
ألا يعتبرهذا تراجعا عن اعتبار ألمانيا وايطاليا كمخبرين أوّلين للعلاقة بين 'النيوليبيرالية والثورة المحافظة ' وبالتالي قبولا غير مباشر بالتعريف الاقتصادي للثورة المحافظة ( بوصفها النيوليبيرالية نفسها) بحيث نصل الى ما يشبه الخلطين المصطلحي و التاريخي، وألا يعتبر هذا اقرارا ضمنيا بأن الاقتصادين الألماني والايطالي لم يكونا "ليبيراليين جددا " بل كانا يمثّلان نهجا اقتصاديا رأسماليا آخر هو' الرأسمالية الاحتكارية للدولة الفاشية' التي تختلف ليس فقط عن النيوليبيرالية بل حتى عن الأوردوليبيرالية التي طبقها الديمقراطيون المسيحيون الألمان بعد الحرب العالمية الثانية و لكنّهم لم يكونوا لا نازيين ولا ثوريين محافظين ؟
ألا تلاحظ معي هنا ، قبل الانتقال الى علم اجتماع سياسة الثورة المحافظة ، أنّ المقاربة التاريخية الفكرية ضعفت تجاه كل من المقاربة الاقتصادية السياسية و المقاربة الاجتماعية السياسية وأدّت الى ما يشبه الخلط الضمني ؟
3- بالانتقال الى علم الاجتماع السياسي للثورة المحافظة أودّ أن أطرح عليك بعض الأسئلة الأوّليّة بعد توضيح ما يلي :
أنت تعرف أكثر منّي أن تيار المحافظة الأوروبي ظهر في البداية كتيار "ثوري مضادّ " للحداثة وثوراتها (الفرنسية مثلا) بحيث كان يرتبط بشكل كلاسيكي بالنزعة التقليديّة القديمة. ولكن بعد انتصار الحداثة و الثورة عاد للظهور كتيار "محافظ جديد" بمعنى أنه لم يعد يسعى الى العودة الى ما قبل الحداثة، كما كان في السابق، بل الى تحويل الحداثة إلى وجهة محافظة بعد القبول بها. ومن هنا يمكن القول (من وجهة نظر علم الاجتماع السياسي) ان النازية مثلا كانت شكلا من 'المحافظة الجديدة ' بالمعنى السابق للكلمة ولكنها محافظة جديدة ' ثورية محافظة ' تسعى الى تغيير شكل الحكم جذريا من الديمقراطية الى الفاشية، وهنا تكمن 'ثوريتها' السياسية المحافظة تحديدا. وهنا أطرح الأسئلة التالية:
أ- ما الفرق بين النزعة المحافظة عموما وبين النزعتين ' الاصلاحية المحافظة' و ' الثورية المحافظة' من وجهة مقاربة 'تاريخ الأفكار' ؟
ب- ألا يوجد احتمال للخلط المصطلحي بين هذه النزعات المختلفة من وجهة نظر علم الاجتماع السياسي عندما ندرسها عبر مقاربة تاريخية فكرية لا غير؟
ت- ألا يوجد تعميم علمي مخلّ من خلال اعتبار كل نزعة محافظة (مهما كانت) بمثابة نزعة "ثورية محافظة" (في حين انّها صنف خاصّ جدّا)؟
ث- ألا يوجد (في موضوعنا) مثلا خلط بين الاصلاحية المحافظة (التي قد لا تتنكر لليبيرالية و الديمقراطية الا جزئيا ) و الثورية المحافظة ( التي ان قسنا على النازية ترفض الليبيرالية و الديمقراطية جذريّا)؟
ج- ألا يوجد وقتها احتمال الخلط بين تيار 'المحافظين الجدد' وتيار 'المحافظين الثوريين' بوصف الأول نيوليبيراليا في الاقتصاد - نعم- ولكنه لا يتنكر للديمقراطية الليبيرالية بشكل جذري بالضرورة (في بلده الأصلي : انقلترا وأمريكا مثلا) ويطالب بأقل ما يمكن من الدولة (المينارشي) ، بينما الثاني رأسمالي احتكاري للدولة ويتنكر جذريا للديمقراطية السياسية من منطلق آخر هو منطلق 'الأولغارشية' الطوطاليتارية مع أن الأوّل لا يمانع في اسناد دكتاتوريات خارج بلده (مثل الشيلي) ؟
ح- وألا يوجد - بسبب المقاربة التاريخية الفكرية - تعميم مخلّ (بسبب عدم التفريق بين المحافظة و' الاصلاحية المحافظة' و' الثورية المحافظة' ) بحيث نجد ضمن "الثورة المحافظة' كل المحافظين في الغرب و الشرق (الصين مثلا ) و الشمال و الجنوب (قيس سعيّد مثلا ) ؟
خ- وألا يوجد خلط بين "الثورية المحافظة " القومية في البلدان الاستعمارية و الامبريالية وبين كل أشكال النزعات الوطنية و القومية حتى في المستعمرات و أشباه المستعمرات و البلدان التابعة حيث المسائل الوطنية و القومية مازال يمكنها أن ترتبط بحركات وطنية وقومية تقدّمية (الناصرية عندنا مثلا) بسبب ما تعانيه من المتروبولات في نظام الرأسمالية المعولمة؟
د- وألا يوجد خلط حتى بين "الثورية المحافظة" الرجعية الدينية في البلدان الاستعمارية و الامبريالية وغيرها وبين كل أشكال توظيف الدّين في المستعمرات وأشباهها والبلدان التابعة حيث يمكن أن يلعب أحيانا دورا ايجابيا يتفاعل مع العامل الوطني/القومي ( بل وأحيانا مع العامل الاجتماعي كما يحصل مع 'لاهوت التحرير' في أمريكا اللاتينية) كما يحصل - ولكن بشكل خاص - في فلسطين وجنوب لبنان ولو من منطلق محافظ، ولكنه يختلف عن المحافظة اليهو-صهيونية الاستعمارية ؟ ( وبالمناسبة هنا حول الاسلام السياسي: ألا يجب التمييز السوسيو-سياسي بين الاسلام السياسي المحافظ التقليدي المعادي للحداثة تماما (كجماعة التكفير والهجرة وبعض السلفيين الآخرين مثلا) وبين الاسلام السياسي الذي يطالب بما يسمى 'أسلمة الحداثة' فحسب؟).
ذ- وألا يوجد خلط بين "الثورة المحافظة" و الشعبوية - التي هي في الواقع شعبويات يمينية ووسطية ويسارية- بحيث يجب الحذر من التعميم هنا كما هو الحال في ضرورة الحذر من عدم التمييز بين البونابارتية (أو القيصرية) الرجعية و البونابارتية التقدمية ، وبين البونابارتية العسكرية الكلاسيكية و البونابارتية المدنية (الرئاسية أو الحكومية...) كما أكّد على ذلك غرامشي مثلا؟
ر- وهل من الجائز بالنظر الى ما سبق اعتبار كل نزعة قومية أو دينية أوعرقية أو إثنية أو قبليّة بمثابة نزعة "ثورية محافظة" و "شعبوية " و" رجعية " بقطع النظر عن البلد وموقعه في النظام العالمي وخصوصيات تاريخه سواء كان مركزيا أو محيطيا ؟
أكتفي بهذه الأسئلة المنهجية العشر هنا وأنهي الآن بسؤال آخر عامّ في ربط مباشر مع أهمّ الأطروحات اليسارية وأكثرها مركزية من الناحية البارديغمية (المنظورية).
4- عنوان الكتاب هو " النيوليبيرالية و الثورة المحافظة " و محتوى الكتاب يركّز كثيرا على نقد النزعات الليبيرالية الجديدة و النزعات الثورية المحافظة ولكنّه لا ينقد جيّدا لا الرأسمالية و لا الليبيرالية الاجتماعية و لا الديمقراطية الليبيرالية. والسّؤال اليساري هنا هو:
هل يخرج القارئ بعد نهاية قراءة الكتاب أيضا بضرورة البدء - على الأقل - بالعودة إلى نقد الرأسمالية وليبيراليتها (حتى الاجتماعية الكينزية ) وديمقراطيتها (حتى 'المباشرة' السويسرية ) أم أنّه يجد نفسه في حدود النقد الاشتراكي الديمقراطي للنيوليبيرالية و للمحافظة السياسية والاجتماعية والثقافية ولكن الذي لم يعد يطرح سؤال نقد و تجاوز الرأسماليّة نفسها بحيث يستحيل عل أصحابه مثلا كتابة كتاب بعنوان "الرأسمالية و الثورة التقدّميةّ " فيستسلمون لفشل اليسار القديم ليبرّروا الاكتفاء بالاختيار بين أشكال الرأسمالية وديمقراطياتها ؟
صديقي وأستاذي العزيز،
لقد وصفت نفسك بنفسك بعبارة "الخائن الكوني" وأنت تقدّم الكتاب. وعلى عكس ما سيتسرّع فيه البعض من الاستنتاج الميكانيكي منهجا والأخلاقي توجّها فإنّني أرى فيك "الوفيّ الكوني" للإنسان أيّا كان و أينما كان. ولكنّني أدعوك من خلال هذه الأسئلة الى التفكير في تنسيب خيانتك / وفائك . فإذا كان كل "ثوري محافظ" محافظا بالضرورة ، فليس كل محافظ " ثوريا محافظا" بالضرورة .كما أنه ليس كل وطني أو قومي أو ديني أوإثني أو قبلي "ثوريّا محافظا" بالضرورة لأنّ الانسان ليس مواطنا فحسب (بوصفه فردا) ولا ينتمي الى طبقة اجتماعية فحسب (بوصفه كائنا اجتماعيا) بل هو أيضا جزء من عائلة وشعب وأمّة لها ثقافة وتاريخ وهو زيادة عن ذلك "إنسان كونيّ" يجب الوفاء ليس فحسب لفرديته/إنسانيته ( ضمن تصوّر قد يكون هلاميّا عن "الانسان الكوني" و "حقوقه الكونية" الليبيرالية)، بل كذلك لكل ماهو ايجابي (وأقول جيّدا لكل ما هو ايجابي فحسب) في أطر انتمائه الأخرى في تصوّر يجمع بشكل يساري جديد مركّب وتقاطعي يؤلّف بين الكوني (أونيفارسال) والأكواني (بلوريفارسال) والمحلّي (بارتيكوليي)... وصولا حتى الفردي ، ولكن بطريقة جديدة يجب البحث عنها ضمن رباعي الحقوق و الحريات الفردية و الجماعية و الوطنية/القومية والانسانية في نفس الوقت.
كن بخير وأرجو أن يساعدك هذا على الحفر أكثر في اشكالية بحثك وتفاصيلها خدمة للمعرفة وللإنسان.