تأملات مهجرية تونسية شخصية 'ضدّ التيّار'
منذ أيام وأنا أفكر بمنطق قلبي /عقلي وأحاول قدر المستطاع أن أكون صادقا مع نفسي قبل كل شيء ...و هذا بعض ما وصلت اليه.
من ناحية أولى :
انّ أغلب من يعادون ما قام به قيس سعيد من القوى السياسية (دعنا من الأفراد) قائلين انّه انقلاب على الديمقراطية تاريخهم تاريخ ممارسة أو اسناد الانقلابات يباركونها عندما يستفيدون منها .
فالاسلاميون لم يصعدوا الى السلطة في السودان يوما الا بانقلاب عسكري آخره كان انقلاب عمر البشير (الذي كان يجمع بين منصبي رئيس الجمهورية والوزير الأول حتى فترة قريبة من نهاية حكمه الذي دام ثلاثين سنة بين 1989-2019) وكان الاسلاميون التونسيون يساندونهم دوما بحكم العلاقة التاريخية بين الغنوشي و حسن الترابي حتى وقت قريب جدا : حتى 'بعد' أن أصبح اسلاميو تونس "مسلمين ديمقراطيين'' كما يقولون .
والاسلاميون في باكستان ساندوا انقلاب ضياء الحق سنة 1978 ولم يندد بهم الاسلاميون التونسيون نظرا للعلاقة التاريخية بالجماعة الاسلامية في باكستان وقائدها التاريخي أبو الأعلى المودودي . وفي ايران ساند الاسلاميون التونسيون سنة 1981 انقلاب الخميني على أبي الحسن بني صدر -أول رئيس لايران بعد ثورة 1979 - ولم يحزنوا على الانقلاب على الانتقال الديمقراطي هناك وقتها .وفي الجزائر تمتع الاخوان بحماية هواري بومدين المنقلب على أحمد بن بلّة سنة 1965 و الذي مكنهم من النشاط نسبيا ثم بعد تسميم بومدين وموته تمتعوا بحماية بن جديد حتى أن محمد الغزالي ويوسف القرضاوي كانا في مرتبة وزراء شؤون دين الجزائر سنواتها وهو ما مهد لقوة الجبهة الاسلامية للانقاذ بعدها . وفي قطر- نصف الاخوانية الآن- تم الوصول الى السلطة بانقلاب الابن على أبيه . وفي تونس نفسها ساند الاسلاميون في البداية انقلاب بن علي على بورقيبة بعد أن كانوا هم أنفسهم،على ما يبدو، يعدّون لانقلاب عليه في 8 نوفمبر 1987 وسبقهم بن علي بيوم .
ولا داعي طبعا للحديث عن "اللا انقلابيين" من 'الدّستوريين' التونسيين الذين ساندوا انقلاب بن علي على بورقيبة الذي تناسوه حتى توفي و الذين كانوا الى البارحة يعتبرون ما وقع في 2011 انقلابا على بن علي لا غير- و لا ثورة و لا هم يحزنون - واليوم تفتقت قريحتهم الديمقراطية المعادية للانقلابات.
في المقابل ، من ناحية ثانية :
ان أخطر من يساند ما فعله قيس سعيّد الآن في تونس وخارجها هم أولئك الانقلابيون اليمينيّون (احزاب كانوا أم أفرادا) الذين يصرخون أكثر من غيرهم انه "ليس انقلابا" وهم في قرارة أنفسهم يريدونه انقلابا يمينيا على الديمقراطية ويدفعون في ذلك الاتجاه بكل قواهم.
و لكن مع الأسف ، قد يساعدهم في ذلك انقلابيون و ثورجيون من بعض اليسار العروبي و الشيوعي مازالوا لم يتخلّصوا من ميراث الانقلابات و الحركات التصحيحية والثورات الكلاسيكية و الذين لا يريدونه تصحيحا للمسار ضمن أفق ديمقراطي جديد، بل يتمنون أن يحقق لهم ما هم عاجزون عن تحقيقه : الانقلاب أو الثورة بمعنييهما الكلاسيكي الذي لم يكن في يوم ديمقراطيا.
هؤلاء الأصدقاء المزيفون للشعب التونسي يشكلون أيضا خطرا على تونس ولو من منطلقات متناقضة و بدرجات متفاوتة طبعا :
الانقلابيون اليمينيون ذوي الأصول النوفمبرية وداعموهم الاقليميون عربيا ودوليا يعملون على أن يتحول ما وقع الى انقلاب يميني على الديمقراطية للعودة الى حضيرة النظام الرسمي العربي الذي في أحسن حالاته يقبل بتلك الديمقراطية على المقاس التي كنا نعرفها جميعا في عهد بن علي مثلا ،هذا ان لم يدفعوا باتجاه النموذج الانقلابي المصري ولو بالانقلاب اللاحق على قيس سعيد نفسه الذين قد يساندونه ثم يدفعونه الى الأقصى حتى يحترق ديمقراطيا كي لا يبقى عندها من حل سوى الحكم العسكري ان بقيت الأزمة متفجّرة.
اما الانقلابيون و الثورجيون العروبيون و اليساريون التقليديون ،وعلى صدق نوايا بعضهم الثورية التي لا يشكك فيها عاقل ، فانهم - سواء بالدعوة الى التحالف مع الدستوريين أو بدونها - قد يرغبون 'دون وعي' في الدفع بما يفعله قيس سعيد في اتجاه وهم "ثورة ضباط أحرار" ناصرية أو "حركة تصحيحية" بعثية أو ثورة "يسارية" متخيلة اليوم في تونس، وهم أعجز الناس عن الاستفادة من ذلك اصلا لو حصل فيخدمون دون أن يدروا الميول الانقلابية و الثورية المضادة لليمين التاريخي الذي لا يزال قويا في 'الدولة العميقة' و مسنودا برجال الأعمال وبجزء كبير من النظام الاقليمي العربي و النظام العالمي.
وما قد يساعد الطرفين المذكورين أعلاه هم بعض أنصار الرئيس قيس سعيد نفسه بسبب حماسهم الشبابي و عدائهم لكل تجربة حزبية و امكان استغلال تصورهم عن "البناء الجديد" لترسيخ تصور رئاسوي غير حزبي يؤدي الى تقزيم دوري كل من البرلمان و الأحزاب السياسية على السواء بوصفهما من آليات تعديل المشهد السياسي (الحزبي ) و الرسمي (بين السلط) في الدولة و المجتمع.
ومع الأسف، يساهم بعض هؤلاء مع بعض اليساريين و العروبيين المساندين لقيس سعيد في تشويه ما يحصل بلعب دور 'الملكي أكثر من الملك' عبر المناشدة من ناحية و عبر تخوين كل من ينقد أو يتحفظ أو غيره بحيث يمكن أن نحدس كونهم لا يتمنون بقاء الأمور ضمن مسار الانتقال الديمقراطي مع تجديده بل يتمنون ذهابها في اتجاه انقلابي فعلا بتعلة ' تجذير المسار الثوري'.
سيقول قائل : هذا خلط للأوراق وعدم تحديد للخطر الأساسي وعدم تمييز بن العدو و الخصم و الصديق ويسال : ولكن ، ما هو الخطر الأساسي الآن ؟
- الخطر الأساسي الآن هو تقاطع الفساد المالي و الفساد السياسي. وهو الذي يفسر المبالغة في تأويل الفصل 80 من الدستور بحيث اعتبر الحكومة و البرلمان من ضمن ذلك الخطر الداهم فقام بحل الأولى وتجميد الثاني بشكل غير متوقع دستوريا.
- فلم قرع الناقوس بهذه الطريقة الآن اذن؟
- من باب الوقاية.
- ولكن هل هنالك مؤشرات ؟
- نعم ،هنالك ميول انقلابية يمينية قوية جدّا وميول انقلابية وثورجية يسارية وان كانت ضعيفة طبعا ، والأولى أخطر من الثانية بمليون مرّة طبعا.
- هل من دلائل على ذلك؟
-نعم، عقلية تخوين كل من ينقد أو يتحفّظ أو يتردّد حتى من المساندين عموما لما يقع أو ممن هم ليسوا من خصومه الصريحين ، و لكن خاصة عقلية "الحكم على الهوية" على خصومه بالجملة والتفصيل بعقلية الاستئصال الجماعي.
- ولكنّ ذلك ضروري كي يتحقق الانتصار في البداية.
- على شرط أن يكون انتصارا للديمقراطية الوطنية الاجتماعية وليس انتصارا عليها حتى لا يكون انتصارا أشد عارا من الهزيمة.
- طيّب هل من حلّ للوقاية من الخطر الذي يشير اليه الناقوس؟
- نقد المنتصر متى أخطأ و الدفاع عن المهزوم متى ظُلم .
- وماذا يتطلب هذا؟
- 'دافعوا عن الحرّية وهي ستنجز الباقي ‘.
-حتى بالنسبة للأعداء؟
- نعم، الديمقراطية هي فن تحويل الأعداء الى خصوم عبر تحديد قاعدتي اللعبة : عدم الطعن في الظهر...الوطني، وعدم الضرب تحت الحزام... الديمقراطي .
- ما معنى ذلك؟
- وحدهم خونة الوطن وممارسو العنف (بالدليل وليس بالتحليل) قد تصارعهم الدولة حتى بالعنف ان لزم الأمر. أما البقية فلهم القضاء الذي يجب أن يحترم سلامة الاجراءات و يضمن الحقوق وأولها حق الدفاع عن النفس و شخصية العقوبة ان ثبتت الجريمة سواء كانت الشخصية مادية (الأفراد) أو معنوية (الأحزاب) .) ... و ما دون ذلك هو الاستبداد .
- ولكن هذا قد يخدم الأعداء.
- لا، بل سيخدم الحرّية.
- أكرّر : ما هو الخطر الأساسي الآن ؟
- أكرّر : الخطر الأساسي الآن هو تقاطع الفساد المالي و الفساد السياسي. ولكن يجب مقاومته بالقانون وبالحرية ضمن أفق الانتقال الديمقراطي الذي يجب تجديده . هذا من باب الوقاية من الاستثمار اليميني و من الاستهتار اليساري و الشعبوي -بل وحتى الشعبي- حتى لا يكون انتصارا أشدّ عارا من الهزيمة. ومن يضيق صدره بالدفاع عن القانون و الحرية و الحقوق الفردية و الجماعية سيصح فيه وصف الانقلابي فعلا و هو ليس أهلا لادعاء الاصلاحية والثورية الآن ...هذا ان كنا نتفق على الديمقراطية طبعا .
- ولكن أليست هذه أخلاقوية سياسية ؟
- ربّما، ولكن هي أفضل من السياسوية اللاأخلاقية؟
- بمعنى؟
- بمعنى التضحية بكل القيم من أجل الانتصار السياسيي.
- ولكن هذه المقارنة بين 'الأخلاقوية السياسية 'و 'السياسوية اللاأخلاقية' قد تكون حلقة سفسطة مفرغة لا مخرج منها.
- لا هنالك مخرج ، الحل هو في احترام الحق و الحرية ...بما في ذلك الحق والحرية في 'السفسطة' ...هذا ان كنا نتفق على الديمقراطية. وهذا ان كنا نفهم اصلا المعنى الحقيقي للسفسطائية وليس المعنى الشعبي المتداول لها.
- لم تكتب هذا؟
- حتى يكون انبلاقا ديمقراطيا لا يزال ممكنا و لا يتحوّل - ولو من باب 'النتائج المفارقة' لنوايا أصحابه الأكثر صدقا - الى انقلاب حقيقي على الديمقراطية !
- ولكن قد يعتبر هذا اطلاقا للنار في كل الاتجاهات؟
- ليس لمن يملك عقلا قادرا على القراءة و التحليل بهدوء ، و أعترف انني لا أعول سوى على أمرين : على الضمير الجمعي للمنظمات الوطنية -وأولها الاتحاد العام التونسي للشغل - ومن يوافقها من الأحزاب و على الضمير الفردي للنزهاء من القراء.
- ماذا تضمر بكل هذا؟
- لا خيار أمام التونسيين الآن سوى "التسوية التاريخية" ولكن على قاعدة الجمهورية الاجتماعية الديمقراطية ما أمكن بما يفترض تفكيك المنظومة وتجديدها مع مد اليد لكل من يقبل من شقوقها (بما فيها شقوق الأحزاب) بذلك التفكيك ؛ 'الحسم التاريخي ' الراديكالي الآن غير ممكن و ان حدث قد يكون يمينيا نظرا لضعف اليسار و الوسط التاريخي وقوة الدولة العميقة المالية و الجيو - سياسية الاقليمية و الدولية أو سيؤدي الى احتمال الحرب الأهلية /الاقليمية. و 'المساومات السياسية ' القديمة لن تفعل في أحسن الحالات سوى تأجيل الأزمة بإعادة تدوير الفسادين السياسي و المالي. وحدها التسوية التاريخية اليوم هي من ستقوم بتقليم الأظافر الضروري لتجنب خطر التراجع الى الخلف و الانحراف الى اليمين و القفز في الهواء المتوهم تقدّما الى الأمام.
- و لكن هذه اصلاحية ؟
- نعم، فتونس اليوم تحتاج الى اصلاحيين جذريين كي تنجو من قوة الرجعيين المتجددين ومن ضعف الثوريين المتحنّطين ومن مزالق الشعبوية.
- ألهذا كتبت "ضدّ التيار"؟
-نعم، هذه قناعتي الشخصية وليكن ما يكون : تونس أهم عندي من الجميع.