1- ان ما وقع في تونس إلى حدّ الآن هو 'ثورة سياسية' وليس ثورة اجتماعية. وهذا يعني أنه لم تسقط طبقة أو طبقات وشرائح اجتماعية لتعوّضها أخرى تغير جذريا أسلوب الحياة الاقتصادي والاجتماعي، بل سقطت نخب سياسية وعوضتها أخرى، وهو ما يختزله البعض في ما يسمونه سياسة 'الاستبدال الطبقي'. وقد حصلت هذه الثورة السياسية تحديدا بعد حل حزب التجمع وابطال العمل بالدستور وحل مجلسي النواب و المستشارين واصدار العفو التشريعي واكتساب الحرية السياسية، أي بعد سقوط حكومة محمد الغنوشي الثانية بعد اعتصام القصبة الثاني.
2- من أكتوبر 2011 الى 25 جويلية 2021 جرى ذلك 'الاستبدال' السياسي / النخبوي عبر الانتخابات التأسيسية والرئاسية و التشريعية والبلدية ، ولكنه أدّى الى أزمة لأنّه لم توجد نخبة تمكنت من تحقيق الاستقرار الإيجابي لحكمها الى أن وصل البلد الى أزمة قاتلة بالمعنيين الحيوي (25 ألف مواطن ضحية كورونا) والسياسي (شبه انهيار عمل الدولة الذي جاء ضده حراك 25 جويلية الذي استغله رئيس الجمهورية ).
3- تميز 25 جويلية بكونه طريقة جديدة من طرق ذلك 'الاستبدال ' بحيث إن مؤسسة من مؤسسات الدولة هي التي أخذت زمام الأمور لإيقاف أشكال الاستبدال الانتخابية/ الحزبية السابقة، فكان تجميد مؤسسة الرئاسة للعمل بالدستور و حل الحكومة و البرلمان وباقي الاجراءات الخاصة بالسلطة القضائية وغيرها مستغلة تحركات المواطنين وغضبهم على العشرية السابقة.
4- و 25 جويلية لم يكن استكمالا ' خطّيا ' لمسار الثورة ، فذلك كان يعني تجذير مساراتها الوطنية والاجتماعية والديمقراطية في اتجاه تقدمي أوضح مما هو عليه الآن ، بل كان توجيها جديدا لها مع الابقاء على حدودها السياسية السابقة، ولو مع محاولة القيام باصلاحات بقيت الى اليوم مرتجلة وسطحية، وأحيانا فولكلورية تماما، بسبب غياب المشروع التجذيري المطلوب وتعويضه بمشروع 'اللامشروع/اللابرنامج' .
5-و لكن 25 جويلية - وغيره مما سبق من استبدال أيضا - ليس مجرّد استبدال سياسي و/أو نخبوي الا بمعنى دقيق جدّا هو ليس سطحيّا كما قد تفهمه القراءات الطبقية/ الاقتصادوية . إن كل استبدال نخبوي له في الواقع علاقات قوية الى هذه الدرجة أو تلك مع ما سمته بعض النخب التونسية "نمط الحياة التونسي" ؛ بدءا بالسياسة نفسها مرورا بالاقتصاد والاجتماع و الثقافة و العلاقات الدولية للبلاد، بما يؤثر على الحقوق والحريات كلّها وليس السياسية فحسب. إن 'الاستبدال' هنا وإن كان لا يغيّر 'نمط الانتاج' فهو يغير جزئيا 'نمط الحياة' بتأثيره في مضمون وشكل واتجاه كامل تلك الحياة بما فيها الاقتصادية .
6- ويتميّز الاستبدال الجديد (منذ 25 جويلية) خاصة بكونه استبدال يستند الى رصيد انتخابي معارض للفساد المالي والسياسي ( ظهر بكثافة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية ل2019) ومناصر لاستعادة 'هيبة الدولة' التي فشل استبدال 2014 في استعادتها رغم كونها كانت شعار حملته الانتخابية والسياسية وقتها ، مع التدقيق كونه كان وقتها ( في 2014) موجها ضد الارهاب والانفلات السياسي اساسا وليس ضد الفساد ، ولكنه وصل الى مازق لانه عوض الإرهاب (والسياسة الموازية ) بالفساد ( والاقتصاد الموازي ) ، بمعنى ما ، بما في ذلك في أعلى هرم الحزب الحاكم وقتها : حزب نداء تونس.
.7- واذا كان استبدال 2011 وقع باسم الحرية - ثم انحرف في اتجاه محافظ -، و اذا كان استبدال 2014 وقع باسم الحداثة كرد فعل على انحراف الأول نحو المحافظة - ثم انحرف في اتجاه الفساد -، فان استبدال 25 جويلية ،بعد انتخابات 2019, غير الوجهة معلنا فتح مرحلة '' استبدال النخبة بالشعب '' مستغلا فشل النخب المحافظة والحداثية وعجزها كلها . وهكذا دخل البلد مرحلة جديدة : مرحلة الشعبوية..التي لها نخبتها الخاصة و التي هي بصدد التشكل منذ مدة .
8- ان ميزة الشعبوية التونسية الحالية الأساسية ،اضافة الى شكل تنظمها الخاص القريب من اللاتنظم اصلا، هي الوسطية السياسية بالأساس لأن ' لا برنامجها ' هو عبارة عن عملية ترميق( بريكولاج) لأفكار ( هي أقرب إلى رؤوس الاقلام أو الارساليات البرقية ) مستقاة من مشارب مختلفة يسارية ( الديمقراطية القاعدية...) وعروبية( مسالة التطبيع ..) واسلاموية ( مسائل الأسرة والمرأة..) وليبيرالية ( عدم المساس بالرأسمالية..) . وهي تشكل نسخة تونسية خاصة ذات علاقة مع أساسها الاجتماعي المتمثل في شرائح من الطبقات الوسطى الجديدة المهمشة ( التي يرمز إليها الشباب ) ،والوسطى القديمة ( وخاصة العسكرية والأمنية ). وهي تونسية بمعنى آخر مهم أيضا؛ انخراطها ،لكن الشعبوي الوسطي، في التيار الوطني الإصلاحي التونسي من خلال التركيز على الدولة التونسية وضرورة استمراريتها بهياكلها ومؤسساتها مع تقديم تصور جديد لاصلاحها ،ولكن بطريقة شعبوية ، عبر إعادة طرح مسالتي الشرعية والمشروعية بهدف تغيير النظامين السياسي و الانتخابي اساسا !
9- وان ما حدث من تغيير للدستور وللقانون الانتخابي ، بالتوازي مع الممارسة السياسية لرئاسة الجمهورية التي تغيب عنها مشاريع الإصلاحات الكبرى في باقي المجالات، يثبت أن قطب الرحى في السياسة الجديدة هو بالأساس ما يسمى ' توفير الإطار الدستوري و القانوني للشعب ' كي يمارس سلطته .وهذا ما نقل الصراع السياسي الدائر في تونس بين النخب من مربع قديم ، حضر فيه صراع المحافظة والحداثة 'الثقافي' كثيرا ، إلى مربع جديد يتمحور حول النظام السياسي بالدرجة الأولى ولكن ،وهذا مهم جدا، دون خروج عامّ عن الإطار الجمهوري للدولة ، ودون تأثير على الاعتراف بكل الحقوق والحريات السابقة.. ولكن مع توجيه الحقوق والحريات السياسية ،وأولها الانتخاب و الترشّح، وجهة جديدة .
10- و يمكن تلخيص الانتقال نحو المربع السياسي الجديد بالأساس في ما يلي : الانتقال من البرلمانية إلى الرئاسوية داخل سلط الدولة ، والانتقال من التمثيلية الديمقراطية الكلاسيكية إلى مزيج جديد بينها وبين شكل هجين من الديمقراطية المباشرة ينعت بالقاعدية. ولكن هذا الانتقال لم يكتمل بعد، إذ وقع تراجع عن النموذج الأصلي في خصوص المجلس التشريعي، و ينتظر ظهور ملامحه أكثر عند توضيح طريقة تكوين 'مجلس الولايات والأقاليم' . هذا وان الاتجاه الاساسي لسهم هذا الانتقال هو أحداث استبدال نخبوي جديد هدفه اضعاف النخب الحزبية الكلاسيكية وتقوية 'النخب الشعبية ' الجديدة التي يقع العمل على تكوينها بالانتخاب وقبله بالتعيينات الرئاسية في عديد المستويات المحلية والجهوية خاصة .
11-إجمالا، نحن الآن في لحظة انتقالية جديدة تتميّز بحدوث اختراق وطني اصلاحي ذي نفس شعبوي وسطي سمحت به التغيرات الديمقراطية الحاصلة في البلد نتيجة الثورة السياسية ؛ فمن ناحية هنالك محاولة معلنة لاعادة ترتيب تموقع البلاد على المستويين الاقليمي والدولي في اتجاه العودة الى مبدأ 'عدم الانحياز' الذي لو تقدمنا فيه سيكون مكسبا سياسيا مقارنة بالتذيل الذي عرفناه في السابق للمحاور الاقليمية والدولية. ولكن ذلك سيكون صعبا جدا وقد يكون من علامات صعوبته ما يشبه العزلة الديبلوماسية الحالية في وضع دولي يتميز باستقطاب حادّ يوشك على الحرب أصلا. ومن ناحية ثانية، هنالك محاولة اعادة ترتيب مشاركة الشعب في السلطة من خلال فكرة 'التأسيس الجديد' التي تأخذ ،مفارقة، شكلا رئاسويّا من ناحية و'ديمقراطيا قاعديا' من ناحية ثانية.
ولعلّ هذه المفارقة نفسها هي التي ستحكم على اللحظة الانتقالية الجديدة حسب ما ستؤدي اليه موازين القوى التي لم تحسم بعد، ولن تحسم حتى بانتخابات 17 ديسسمبر 2022 على ما يبدو، لأنها تعطي احتمالين : أ-عدم اسناد نتائج الانتخابات التشريعية لما تريده الرئاسة مما سيؤدي الى احتمال الهروب الرئاسي الى الأمام باعتماد ذلك التصور الرئاسوي نفسه . ب-اسناد الانتخابات التشريعية للرئاسة واحتمال المرور بشكل أسرع الى التصور القاعدي الذي سيقع التعبير عنه وقتها في القانون الانتخابي المنظم لمجلس الولايات والأقاليم. ويوجد طبعا احتمال ثالث: دخول البلد في أزمة حادّة بسبب الأزمة العالمية التي ستؤثر على وضع البلد المنهك الآن، واستغلال المعارضة الداخلية والخارجية تلك الأزمة لطرح سيناريوهات أخرى تماما قد يكون أقلها خطرا ' مسك العصا من الوسط' ،وهذا وارد بالنظر الى ضعف مقدرات البلد من ناحية والى تصاعد التوترات الدولية والاقليمية من ناحية ثانية.
12-إنّ لحظة الانتخابات التشريعية القادمة هي إذن لحظة كبرى في المحطة الانتقالية الجديدة لأنها إما أن تدفع البلد الى انفراج مؤقت جديد - بشرط عدم الهروب الى الأمام التسلطي في اتجاه الاستبداد - ، أو الى انسداد مؤقت جديد ولكن كبير هذه المرّة - قد يعود بالبلد القهقرى أبعد حتى مما عاشته طوال العشرية السابقة بسبب وزن الأزمة الكبير على العالم وعلى تونس. وفي الحالة الأولى سيقع الانفراج فحسب بشرط استقرار البلد مع المحافظة على كل المكاسب الديمقراطية . خلاف ذلك ،ستنتهي 'اللحظة الشعبوية الوسطية' بسبب انزلاقها نحو 'اليمين السياسي' الاستبدادي حتى رغم اقترابها ،فرضا، من 'اليسار الاجتماعي' لأنها سوف تضع حدّا للتجربة الديمقراطية بشكل أو بآخر حتى وهي تعلن اصلاحات أكثر جذرية اقتصاديا واجتماعيا مثلا. و هنا ،لا بدّ من انتباه أصحاب موقف 'المساندة النقدية' قبل غيرهم سواء منهم من سيجد نفسه في البرلمان القادم أم لا . أما في الحالة الثانية فسيحدث أحد أمرين على الأرجح؛ إما تدجين اللحظة الشعبوية أو كسرها تماما ، أي إما ارغامها على الركوع وقبول الاملاءات الخارجية والداخلية المعارضة جذريا ، أو انهاء التجربة تماما وتعويضها بأمر آخر قد لا يعرفه الآن أحد .
13- بسبب هذه الوضعية التي تتميز أيضا بسمة الجزر الشعبي و الثوري ولكن التي تهدد أصلا بالانفجار الانسحاقي ، ومن منطلق 'وطني اصلاحي ' تحديدا ، يمكن اعتبار المشاركة في الانتخابات حتى بالنسبة لمن يعارض 25 جويلية جذريا -ولكن من مواقع وطنية واجتماعية وديمقراطية- أسلم موقف رغم كل الانتقادات التي يمكن توجيهها للسلطة ، دون أن يعني ذلك تجريم موقف المقاطعة عند من يدافعون عن تلك المواقع الوطنية الاجتماعية الديمقراطية تحديدا.
إنّ المقاطعة للانتخابات الآن ليست جريمة الا عند من يريدون المقاطعة الانتخابية كبوابة سياسية للعودة الى ما قبل 14 جانفي أو الى ما قبل 25 جويلية. وهؤلاء ينتقدون الشعبوية من اليمين ويختلفون عن منتقدي الشعبوية من الوسط و اليسار وإن التقى بعضهم في حدّة الرّفض الذي يبقى مع ذلك ذي اتجاهات سياسية متعارضة.
وسيكون من المهمّ جدّا دخول أنصار الرئيس ومعهم أصحاب موقف 'المساندة النقدية' و' المعارضة الايجابية' و حتى أنصار المعارضة الراديكالية (من الوطنيين الاجتماعيين الديمقراطيين) الى البرلمان القادم لحماية المسار الحالي ليس فحسب من أعدائه، بل كذلك من أصحابه وأصدقائه أنفسهم لأنه مسار يحوي فعلا نقاط ضعف كبيرة داخليا ( فكريا وسياسيا وتنظيميا) و خارجيا (اقليميا و دوليّا) .
وفي حالة عدم حصول ذلك بالنسبة الى المعارضين الراديكاليين ل25 جويلية (من الوطنيين الاجتماعيين الديمقراطيين من الوسط و اليسار) سيكون من المهمّ البحث عن قواسم مشتركة لمواصلة النضال المشترك خارج البرلمان نفسه، بما في ذلك ضد نواقص وأخطاء المسار دفاعا عن المكاسب الوطنية والاجتماعية والديمقراطية المراكمة منذ 1956 وتطويرا لها ما أمكن.
14- مع الأسف، من خلال المتابعة عن بعد فحسب، يبدو أن لا هذا و لا ذاك يحصل حماية للبلد من الأزمة المركّبة التي تعيشها والتي ستضاف اليها نتائج الأزمة العالمية بثقل قد لا نتصوره لو ساءت الأوضاع أكثر. إن التنظيمات والشخصيات التي يبدو أنها ستدخل مضمار الانتخابات لا تنسق فيما بينها كما يجب بحيث تبدو الترشحات فردية أو حزبية دون روحية جماعية نابعة من رؤية وطنية اصلاحية. أكثر من ذلك، لقد أعلنت بعض الأحزاب السياسية أصلا عدم اعتزامها الدخول في تحالفات انتخابية مبينة بذلك عن نزعة طهورية و طفولية بالنظر الى حساسية الوضعية الحالية. ومن ناحية ثانية، تبدو العلاقات بين أنصار المشاركة و المقاطعة -من أصحاب مواقف 'المساندة النقدية' و 'المعارضة الايجابية' و 'المعارضة الراديكالية من الوطنيين الاجتماعيين الديمقراطيين الوسطيين واليساريين- كارثية يقودها التخوين و التخوين المضاد ، فلا يستفيد من ذلك سوى أنصار العودة الى ما قبل 14 جانفي أو أنصار العودة الى ما قبل 25 جويلية بالنظر الى أوزانهم السياسية .وإن سببب هذا الوضع الكارثي الثاني يعود الى وهم احتكار الثورية هنا وهناك في حين أن البلد سيكون أفضل الآن وفي المستقبل القريب لو عرفت نخبته كيف تكون وطنية اصلاحية ناجعة وناجحة تحديدا.
15- أخيرا، ظهرت مؤخّرا مبادرة 'مجموعة ال 25' 'الرمزية' -كما قيل- بعنوان ''لينتصر الشعب'' .و من المهمّ القول منذ البداية إنها جاءت متأخرة (رغم أنه كان بالامكان اعلانها منذ أشهر بسبب بدء التفكير في ما يشببها حسب ما وصلنا من 'تسريبات' ! ) و'غير انتخابية' (في زمن الانتخابات !) و'أفقية' (في زمن تذمر حتى الأحزاب المساندة ل25 جويلية من كيفية ادارة المسار !) ومنقوصة (تغيب عنها أسماء اخرى وازنة مساندة لمسار 25 جويلية !) من ناحية أولى .
و من ناحية ثانية، جاءت المبادرة '' تجسيما لروح الدستور الجديد ...'' دون أيّ موقف نقدي من نزعته الرئاسوية ومن طريقة اعداده هو والقانون الانتخابي وغيرهما ، و دون أية اشارة حتى الى وعد بتقويم واصلاح ما وجد وما يمكن أن يوجد من أخطاء .
ودون رغبة في استباق الحكم النهائي على هذه المبادرة الآن - بالسلب أو بالإيجاب - يمكن القول بأنّها تبدو وكأنّها 'مبادرة الوقت الاضافي' - كي لا نقول 'الوقت الضائع' - لتكوين نواة 'نخبة جديدة' تقود 'كتلة تاريخية' متماسكة بشكل ما وكبيرة بما يكفي تمثيل عموم الوطنيين الاجتماعيين الديمقراطيين الذين تحتاجهم تونس الآن للحفاظ على تنوع نسيجها السياسي 'الوطني السيادي' المطلوب. ورغم هذا، نتمنى ألا يقتصر دور هذه المبادرة على 'المساندة' المطلقة التي تفتقد حتى إلى'المناشدة' بتعديل واصلاح النواقص والأخطاء ، بحيث تصبح وكأنّها مبادرة اسناد رئاسية لا غير في وقت يبدو أن الرئيس يتجاهل فيه حتى آراء أقرب الناس اليه ،خاصة من غير 'أبناء المشروع'. ولكن، لننتظر و لنعط وقتا للوقت !
عوضا عن الخاتمة : عود على بدء
في وضع دولي وإقليمي وداخلي غاية في التأزّم وقد يصبح منفجرا تماما في كل لحظة ، وفي وضع احباط نخبوي وشعبي شبه تام من السياسة والسياسيين، وفي وضع تراجع المدّ الجماهيري الايجابي واحتمال الانفجار الانسحاقي أصلا ، و في ظل ما نعتقده تواصل توفر حدّ أدنى من الرغبة الوطنية في الاصلاح دون التنكر للتجربة الديمقراطية - ولكن مع محاولة تغيير وجهتها السياسية شعبويا - ودون التنكر للمكاسب الاجتماعية - ولكن مع الاضطرار الى التأقلم مع الضغوطات المالية تحديدا - ، نعتقد أنّه من الجائز - بل و من الضروري- المشاركة في محاولة التأثير -بما فيه الانتخابي- على 'الاستبدال النخبوي' الحالي مع الحرص على تغذيته بأقصى ما يمكن من العناصر (الفكرية والبشرية) الوطنية والاجتماعية و الديمقراطية حتى لا تنتكس 'الثورة السياسية' بتوجيهها وجهة غير معلومة باسم 'التأسيس' أو لا يقع الانقلاب عليها تماما بسبب أخطائها، و حتى لا تخسر مكاسب وطنية واجتماعية وديمقراطية - على ضعفها ولذلك وجب اصلاحها وتجذيرها . هذا ويجب أن يتم هذا بالنضال الانتخابي/البرلماني وبغيره ومع من يسندون نقديا ومن يعارضون جذريا مسار 25 جويلية إن كانوا من الوسط أو اليسار الوطني الاجتماعي الديمقراطي وسواء شاركوا في الانتخابات أو قاطعوها لأنّه من المهم استغلال كل هامش ديمقراطي لحماية البلد والشعب ومكاسبه من التراجع الى الوراء ومن الانحراف بالوسط الى اليمين و كذلك من القفز في الهواء اليسراوي (الشعبوي أو اليساري ).
هذه هي 'بوصلتي' السياسية الآن لمن يصبر على القراءة و يقبل الحوار. ومن نافل القول ان البوصلة في السياسة ليست البوصلة في العلوم التجريبية، بل هي أقلّ ترجيحا لأنها بوصلة تتداخل فيها العوامل القلبية بالعقلية وسط الوقائع الاجتماعية الأكثر تعقيدا من الطبيعية، وهي لذلك لا تدّعي وثوقية الصحّة العلمية ولا تجزم بالوصول الى أحسن شواطئ أو موانئ الأمان التونسية ، خاصة وأنها شذرات بوصلة مغترب لا يعيش الواقع الا من بعيد و يدرك دائما أن "أهل مكّة أدرى بشعابها" !