إلى الفقيد الدّكتور حسن حنفي
كتبت الجزء الأساسي من هذا النصّ في 23-10-2015 و في ذهني " من العقيدة الى الثّورة " للفقيد الكبير الدّكتور حسن حنفي ، وها أنا أعيد نشره مع تعديل وإضافة بعد سنوات ستّ اليوم. و كان النّص يستبطن حتى نقد حسن حنفي نفسه ، ولو جزئيّا ، إذ قد كتب بالاستفادة ممّا يسمّيه بعض باحثي علوم الأديان - لعلّ أشهرهم الكندي غي مينار (Guy Ménard)- بمنظور 'الرّوليجيولوجيا ' ( La religiologie) التي هي منظور ابستيمولوجي في علوم الأديان في بعض الدّول المتقدّمة يقول انّنا في الواقع لا نزال مسكونين بالدّين في نظرتنا الى العالم و المجتمع و الانسان حتى عندما نزعم الثورة و رغم كل ما حصل من تقدّم في مسار العلمنة . واذا كان هذا ينطبق على الناس في تلك الدّول المتقدّمة فانّه أكثر انطباقا عندنا نحن العرب و المسلمون بسبب وزن الديّن في حياتنا ووعينا الاجتماعي بما فيه ...و عينا الثّوري.
وأنا على وعي بمحدوديّة هذا الاختيار الذي يبدو كأنّه يفسّر كل شيء بالأفكار عموما و الأفكار الدّينيّة تحديدا .و لكنّني أقدم على ذلك عمدا حتّى أخاطب العقول .فحتّى ماركس نفسه يقول في معرض حديثه عن الوعي في رأس المال: ’انّ أسوأ عامل هو بالتأكيد أرقى من أمهر نحلة لسبب بسيط هو انّه يبني الخليّة الاصطناعية في ذهنه قبل أن يصنعها في الواقع‘. و يضيف في مكان آخر :' انّ الأفكار تتحوّل الى قوّة مادّيّة عندما تؤمن بها الجماهير" .
منذ حوالي خمسة وعشرين قرنا فرّق اليونانيّون بين الحقيقة و العقيدة .لقد ميّز بارمينيدس مثلا منذ القرن الخامس قبل الميلاد بين مصطلحي الآليتيّا – الحقيقة و الدّوكسا- العقيدة أو الرّأي . أمّا نحن فإلى اليوم لا نزال امّا لا نميّزهما عن بعضهما أو نعتبر العقيدة نفسها هي الحقيقة وبالمطلق أحيانا .انّنا لا نفرّق حسب بارمينيدس بين الحقيقة و الرّأي ، بين ما يمكن أن نثبته نسبيا من خلال مواجهته بالواقع عبر العلم و التكنولوجيا مثلا ، و بين الآراء و العقائد التي لا مجال لإثباتها و التي عادة ما نتّخذها مسلّمات من خلال الايمان بها وان حاولنا عقلنتها نسبيّا فيما بعد لجعلها معقولة ومقبولة.
و من البديهي انّه لا يمكن مطالبة البشر بالتخلّي التّام عن العقائد والآراء طالما انّنا نقرّ بانه لا يمكن الوصول الى الحقيقة المطلقة تماما ، وان في الواقع ما لا يخضع اصلا لمقياس الحقيقة / الخطأ بل الى مقاييس أخرى مثل الخير / الشر و مثل الجمال /القبح،الخ.، بحيث حتى عندما نصل الى حقيقة واضحة في ميدان ما فانّ البشر لا يحكمهم العقل فحسب في كل ميادين حياتهم حتى يتمسّكوا فيها بالحقيقة دون غيرها. ولكن من غير المعقول ،اجرائيّا على الأقلّ ، أن نتجاهل التفريق بين الحقيقة و العقيدة لأنّ ذلك له انعكاس مباشر على الفعل أو ان شئنا الممارسة ( البراكسيس) .
في المقابل ، لا يعني هذا انّ لا حقيقة أبدا في العقيدة، حتى لو كان كلّ (أو جلّ) محتواها غير حقيقي و غير قابل للإثبات بالمعنى العلمي . يكفي أن يؤمن بها النّاس و يعتمدونها في الممارسة حتى تصبح 'حقيقة اجتماعية' من نوع ما تؤدّي الى نتائج فعلية ناتجة عن الايمان و الممارسة البشريتين . ان عدم الاعتراف المطلق باية حقيقة للعقيدة هو تفكير- سلوك يشبه سلوك النّعامة التي تضع رأسها في الرّمل أو تفكير- سلوك الطّفل الذي يعتقد انّه بإغماض عينيه سوف لن يرى الحقيقة في الواقع الذي يخشاه.
والعقيدة ليست دائما ثوريّة بالضّرورة . وحتّى ان بدأت ثوريّة فهي تميل - بوصفها عقيدة - الى المحافظة لأنّها تميل الى ' التّمنسق' - التّحوّل الى نسق فكري- و الى التمأسس - التحول الى عقيدة رسمية للدولة و مؤسسات المجتمع السياسي و المدني . و لكن - وهنا المفارقة و المأزق - لا ثورة دون ' عقيدة ثوريّة ' بالضرورة و الا كانت ' فورة ' عفوية عمياء تفشل أو تؤدّي الى الفوضى.
لا خلاص ربّما الا بتحويل عقيدة الثورة الى ’ لا- عقيدة ثورية ‘ وذلك بإعلان الثورة المستمرّة ليس فقط على العالم، بل كذلك على عقيدة الثورة نفسها وعلى كهنتها و مؤسساتها و دولتها . ولكنّ ذلك قد يؤدّي الى ريبيّة وعدميّة فكريّة و بالتالي الى فقدان كلّ بوصلة ثوريّة.
ولكنّ مفهوم الخلاص أعلاه هو نفسه مفهوم ' عقيدي' في حين يفترض انّ الثورة ليست فعلا خلاصيّا عقائديّا من أجل تحقيق الجنّة النّهائيّة السّماوية أو الأرضية، بل هي فعل انساني يهدف الى التغيير الايجابي البشري الجذري و لكن غير الفردوسي .وبهذا المعنى فحسب لا تؤدي تلك الرّيبية أعلاه إلى المحافظة و الرّجعيّة بحجّة نقد العقائديّة.
ان عدم فهم الثورة على هذا الأساس غير العقائدي هو الذي جعل العقائد تقتل حتّى الثورات التي تعلن ظاهرا القطع مع العقائد القديمة نفسها و تحوّلها الى مقابر أحيانا كما حصل في كمبوديا على يد الخمير الحمر مثلا ؛ فالموتى هم الموتى ولا فرق بين مقبرة و مقبرة مهما كانت هندسة المقابر وأشكال القبور و طقوس الدفن والعزاء و حتى جماليات الرّثاء. والسياسة الثورية يفترض أن يكون هدفها الأحياء حاضرا و الذين سيولدون مستقبلا وإلاّ فقد تصبح سياسة بربريّة.
انّ ' الموتى وحدهم لا يخطئون ' بينما الثوّار أحياء ويصيبون و يخطئون دائما. هذا حتى لا تنصب المشانق الثورية و لا يقتل الثائر بسبب الخطأ الذي يرتكبه باسم الانحراف عن العقيدة الثوريّة كما فعل الثوريون الى حدّ اليوم و جعلوا ثوراتهم تأكل أبناءها 'مثلما' تأكل أعداءها بحجة ضرورة الجمع بين النضال ضد الأعداء من' الشياطين' وخدمهم من' الهراطقة ' معا و كأنّهم – أي الثوريون - هم ملائكة الرحمان الساهرة على سلامة العقيدة و المساعدة على السير في طريق النعيم الثوري على انقاض الجحيم الواقعي.
انّ الثورة على مفهوم الثورة نفسه يفترض فهمها كاستئناف مستمرّ للفعل الثوري في التاريخ المفتوح دائما على ما هو أفضل - ولكنّ الذي قد ينفتح أيضا على تراجعات و ردّات خطيرة - وانه لا يوجد شيء اسمه ' نهاية التّاريخ ' التيّولوجي أوالهيغلي أو ' نهاية ما قبل التاريخ ' الماركسي مهما تحقّقت من انجازات ثوريّة ايجابيّة.
وليس هنالك من حلّ لمفارقة - معضلة العقيدة و الثورة الا بأنسنة الثّورة نفسها و ذلك بالتقدّم خطوة جديدة في علمنة مفهومها بفصلها – و لو اجرائيّا على الأقلّ بوصفها نشاطا انسانيا - ليس فقط عن العقائد الدينية المنغلقة بل و كذلك عن العقائد الوضعيّة الثورية المنغلقة التي تأخذ أحيانا عن العقائد الدينية كل سماتها النسقية و التقديسية – الذاتية، فتتحوّل من عقائد ثورية الى عقائد ثورية - مضادة مع تقدم التاريخ بسبب كونها عقائد ثورية تزعم هي نفسها الصّلاحية لكل البشر في كل مكان و كلّ زمان و تنتج نصوصها المقدّسة واكليروسها الارثوذكسي و محاكم تفتيشها و حروبها المقدسة الجديدة ومفهومها الجديد عن الخلاص وعن الجحيم والنعيم.
يحدث هذا في حين انّ العلم و العلمنة و الأنسنة تعني كلّها أوّل ما تعنية ' نزع السّحر عن العالم ' و عن الانسان و بالتالي عن الثورة و الثوريين الذين عليهم أن ينزلوا من برج العقائد الثورية المقدّسة و النزعة الرّسولية- العلمائية التي كثيرا ما يحيطون أنفسهم بها (تماما مثل رجال الدين المسلمين مثلا عندما يستغلّون الحديث و يقولون ان 'الله يرسل على رأس كل مائة عام من يجدّد للأمة دينها ' فيحولون العلماء الى ورثة للأنبياء ) فيقدّمون أنفسهم ليس فقط كعلماء للتّاريخ و/أو كفاعلين ثوريين فيه بل وكأنّهم رسل التّاريخ الذين سيأخذون مكان رسل الله فيه .
عليهم أن ينزلوا الى واقع الانسان الذي هو ليس شيطانا و لا ملاكا، و لا حملا وديعا بطبعه و لا ذئبا شرّيرا بطبعه ، انّما هو ذلك الكائن الايكو- ببيو- فيزيو- انثروبو- سوسيو- تاريخي بامتياز كما يقول المفكّر ادغار موران ( Edgar Morin ). وربّما عليهم ،بعيدا عن نظريّة التعقيد (la théorie de la complexité) وشبيهاتها المتعالمة و عودة الى ابن عمّنا الحيوان ، أن يتذكّروا انّ 'رسل الثورة' و 'حواريّيها ' و'خلفاءها الرّاشدين' - ناهيك عن المناضلين - لا يخطئون و يصيبون فقط بل ... يأكلون و يشربون و يتجشأون و يتثاءبون و يسعلون و يتنخّمون و يعطسون و يعرقون و يتبوّلون و يتبرّزون و يضرطون أيضا. واذا كان رسول الاسلام يقول ’ما أنا الا بشر مثلكم ‘ فهم أحيانا و بعض أتباعهم يتناسون الأمر أو يكادون .
ان أنسنة السياسة و الثورة تتطلّب أوّل ما تتطلّب ،اذن، وضع نظارات انسانيّة حتّى لا نرى لا عمالقة في مرآة الثورة و لا أقزاما في مرآة الثورة المضادّة ، بل نرى بشرا تاريخيّين هم محور كل فعل سياسي و ثوري بعيدا عن أيّ منظور قد يسجن الانسان في عقيدة مقدّسة وقد يسجن الثورة في نموذج مقدّس وقد يحوّل الانسان و السّياسة و الثورة الى مقدّسات ميتا - انسانية جديدة مقابل المدنّسات الأرضية و/أو البورجوازية.
ان محورية الانسان و السياسة و الثورة لا يجب أن تبقى محورية دينية أو وضعيّة شبه الهيّة - و ان عارضتها في الظّاّهر- بل أن تتحول الى تواضع انساني و سياسي و ثوري بعيدا عن تعالي المركزية الثورية نصف الالهية و عن دونية الدّاروينيات الاجتماعية الرّجعية بحيث توفّق بين وضع الانسان الأقدام على الأرض الواقعيّة علما و وضع الرأس في الغيوم حُلما.
إنّ السياسة و الثورة هما أولا وثانيا و دائما الانسان الواقعي- الحالم في نفس الوقت ، و الاّ فستكون لدينا ايديولوجيا أحاديّة البؤس الواقعي و نصف الحيواني أو ايديولوجيا أحاديّة الحلم اليوطوبي نصف الالهي ، و كلاهما لا انساني. و حتّى لا نخسر الايديولوجيا و اليوطوبيا الضّروريتين للنضال و الحلم علينا ألاّ نحوّلهما الى ايديولوجيا-يوطوبية نهائيّة وميتافيزيقيّة ميتا- تارخيّة : الى عقيدة ميتا-انسانيّة.
وأخيرا ، ان كان و لا بدّ ولم تستطع الثورة أن تتخلّص من عقائديّتها الدينية و- أو الوضعيّة ، فيجب اعلان 'الهرطقة الثورية' بل و حتى 'الكفر الثوري' الصّريح و اعلان الانتماء الى ' اللاّيكوس ' االكافر و الاصلاحيّ ' - اذا كان ما يقابله هو حصرا ' الاكليروس الأصولي الثّوري' - وذلك من باب العلميّة و العلمانيّة و الأنسنية الثوريّة التي لا تزعم لا انّها الوحيدة الصّحيحة و لا انّها الوحيدة الثوريّة ، و بالتالي لا تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة أو احتكار تحقيق السعادة المطلقة الزّاعمتين السعي الى تحقيق حلم الانسان الكامل - وهذه كلّها مقولات ميتافيزيقية قديمة - بل ومن باب العلمية و العلمانية والأنسنية التي تدعو الى تعاقد السياسيين و الثوريين على عقائد سياسية وثورية متعدّدة و منفتحة و متضامنة فيما بينها و مناضلة ضد عقائد اللاّسياسة - المخرّبة للمدينة والمنظّرة للاستسلام للأمر الواقع أو للثورة المضادّة - و ، لكن في نفس الوقت ، ضدّ أيّة كنيسة سياسية ثورية (تقدّمية أو محافظة ) متمأسسة مهيمنة و ضدّ رسولها/ مسيحها الأوحد الذي يحتكر السياسة و الثورة ولو بثمن جماجم النّاس ، و دون الدّعوة كذلك الى تأسيس عقيدة/كنيسة جديدة بل ، إن لزم الأمر، الدعوة الى مديح كل شخص يعلن نفس' يهوذا السّياسة و الثّورة '.
وآخرا ، لقد كان الفقيد حسن حنفي تقريبا من 'حنفاء' (كمعنى الحنفاء في مقاربة المسلمين) هذه النزعة المستأنفة للفهم التقليدي للعلاقة بين العقيدة و الثورة في ديارنا ، كما كان من ' أحنافها ' الفكريين (بمعنى التسامح مقارنة بغيره من المذاهب) . وربّما لذلك فشل سياسيا رغم نبوغه فكريّا وتفوّقه ايتيقيّا على خصومه من أصحاب الرّؤى الأخرى الأكثر أرثوذكسيّة في العقيدة وفي الثورة ، وكان في هذا يشبه الشهيد علي شريعتي في الحقل الشيعي .
و لعلّ ما يفسّر فشله السياسي المؤقّت - ونكتفي هنا بالأسباب الفكرية – إضافة الى عدم بحثه 'التلقائي' عن تأسيس تنظيم سياسي ، ليس سطوة الأرثوذكسية 'الثورية الدينية ' فحسب ، إذ حتى الصّوفيّة الذين كان يمكنهم الاتفاق معه في تصوّره الاسبينوزي لم يمكنهم الذهاب بعيدا معه لأنهم بقوا أسيري جوهر علم الكلام التقليدي و طقوس التسنن التقليدي ضمن اطار الأورثوذكسية الصوفية نفسه ( وكذلك حصل لعلي شريعتي رغم باطنية التشيع ونزعته الشعبية التي ابتلعتها نظرية 'الولي الفقيه' في التشيع الاثناعشري الايراني ) بل كذلك سطوة التدين الرّسمي ( الموسوم خطأ بالليبيرالي في ربوعنا ) وسطوة النزعتان الثوريتان القومية واليسارية اللتان احترفتا صدّ التصوّر 'الاسلامي التقدّمي' عنده عبر وصمه بكل وصم تصمان به ' الاسلام السياسي' التقليدي ، وخاصّة الإخواني .
و الأكيد أنّ حسن حنفي المفكّر لن يموت غدا بعد موت حسن حنفي الانسان بالأمس 21-10 -2021 . صحيح انّ فكره لن يعيش ويستمرّ خاما كما بناه من خلال تصوراته عن العلاقة بين العقيدة والثورة و بين التراث و التجديد، الخ. ، إلا بين دفّات كتبه ، ولكنّه بالتّأكيد ـ إن عرفت النخب من أين تؤكل الكتف - سيكون أحد أسمدة ثورة فكرية واجتماعية عربية - إسلامية قادمة ستكون ،ربّما ، أكثر علمية وأكثر علمنة و أكثر أنسنة ممّا مضى ... ولو بعد حين .