إنّ الإتّفاق العامّ مع المرشّح قيس سعيد حول مبادئ السيادة الوطنية و الإرادة الشعبية المباشرة والتّنمية الجهويّة و مقاومة الفساد وتخوين التطبيع مع الصّهيونيّة ...أهمّ عندي من الإتفاق العام مع المرشّح نبيل القروي حول الموقف من عقوبة الإعدام والفحص الشّرجي و المساواة في الميراث و حرّيّة الإفطار …
ثمّ أنا لست أحمقا حتى أسلّم وزارة الدّفاع في بلادي لمن يمكن أن يحوّلها لواجهة وزاريّة رسميّة تغطّي على شركة اتجار دولي في السّلاح ، وحتّى أسلّمه وزارة الخارجيّة ليجعل من مكاتبها مقرّات لتهريب وتبييض العملة مستفيدا من الحصانة الدّيبلوماسيّة …
وأنا لست لا موتورا حتّى أحدّد موقفا سلبيّا من المرشّح الأوّل ـ الذي أتحسّس حدود برنامجه و أنقدها ـ بمجرّد أن يسانده من أختلف معهم كلّيّا أو جزئيّا ـ من الإسلاميّين مثلا ـ ولا بارد القلب حتّى لا تقرفني مساندة أفسد النّخب للمرشّح الثاني و هي الّتي لو نهض بورقيبة نفسه من قبره وأتاها لصنّفته اليوم ...شعبويّا.
وأنا لست حزينا أو خائفا بالمرّة لسبب كون المرشّح الأوّل يعتبر مرشّحا غير نمطي إلى درجة تحلّق من يشبهون 'الإخوة الأعداء ' حوله بل أنا ، على العكس من ذلك ، سعيد لأنّه يوفّر لي و لأبناء شعبي الوطنيين ( الثوريين و الإصلاحيين والمحافظين ) من كلّ التيّارات السياسيّة ( الليبيرالية والإسلاميّة و القوميّة و اليساريّة ) فرصة أن نتقاطع دفاعا عن حدّ أدنى وطني و اجتماعي ديقراطي مشترك ، ونختلف في ما يزيد عن ذلك ديمقراطيّا في إطار الدّستور، ضدّ من لا مكانة في برامجهم سوى لجيوبهم ولو بالمتاجرة بأمن الوطن و سيادة الدّولة وآلام الشعب .
وإن كنت غير واهم أبدا فإنّني أتمنّى مع ذلك (والتّمنّي قد يفيد المستحيل أحيانا ) أن يكون هذا التّقاطع - الذي قد لا يدوم أكثر من أسابيع - مناسبة لفتح ورشة إحساس وتفكير و فعل جديدة تؤدّي لاحقا إلى ولادة كتلة تاريخية جديدة تتجاوز اصطفافاتنا التقليدية الفكريّة و السياسيّة والتنظيميّة و الدّوليّة لتنفتح على مقاربات معرفيّة و سياسية جديدة تنقذ الوطن ضمن فضائه القومي والإنساني من ضغائن أبنائه في الدّاخل ومن استراتيجيات أعدائه في الدّاخل والخارج .
ولكنّني متشائل كثيرا بسبب معرفتي بهلامية أنصار قيس سعيّد الّذين يشبهون من انتفضوا ذات 14/17 وأعطوا السلطة للترويكا والّذين آعتصموا ذات 2013 وأعطوا السلطة لنداء تونس فكرهوا السياسة والسياسيين ، وبسبب قدرة الدّولة العميقة على الإلتفاف و بسبب تحجّر النّخبة السياسية المعارضة التي لم تفهم وتثمّن بعد الظّاهرة و لن تفكّرفي أحسن الحالات إلا في محاولة إسترداد ( RÉCUPÉRATION ) قيس سعيد وسنده الشبابي وتجيريهما لأطروحاتها و تنظيماتها ، وبسبب المحيط الدّولي الضّاغط كثيرا .
وسأكون مستعدّا للتشاؤل على الأقلّ إذا بدأت نخبة من مثقّفي البلاد و مناضليها المثقّفين في ترك خنادقها القديمة للإلتقاء في منتصف الطّريق من أجل خوض تجربة جديدة مع الجيل الجديد من الشباب الذي سئم صراعات الهويّة والحداثة وقطع مع القديم سلطة ومعارضة في محاولة التّأليف بعيدا عن أقصى ما كانت تمارسه من المخاتلة المتبادلة الناتجة عن الضّعف المتبادل لا غير، والتي تعود إثرها إلى اصطفافاتها التقليديّة كما بيّنت ذلك الإنتخابات نفسها…التي ، بمعنى ما و بحدود متفاوتة ، فشل فيها الجميع.
أعتقد أنّ قيس سعيد و الشّباب المنتفض بالصندوق حوله قد قدّموا لنا فرصة ما ، للتجريب على الأقلّ ، في إمكان تغيير الطّريقة والطّريق . ولكنّ الفرصة تبدو لي الآن كغيمة خريف تونسي سيخاض حولها صراع كبير إمّا لإبقائها مجرّد سحابة صيف عابرة أو لتحويلها إلى سحابة خريف قد تكون بدورها إمّا مدمّرة لا تعطي سوى بَرَدًا أو ممطرة مخصبة لفصل زرع جديد .
آه يا تونس ، نحن في مفترق طرقٍ زلقٍ جديد. فماذا ترانا نفعل بك وماذا ستفعلين بنا؟