في الوقت الذي يستفيق فيه ضمير شرفاء العالم من كل زوايا الأرض القصية نصرة للقضية الفلسطينية من شمال أمريكا حتى استراليا ومن شمال اروبا حتى جنوب افريقيا ضد الهمجية ، تتعالى أصوات انفعالية تونسية وعربية،منها أصوات جامعيين ومثقفين ومناضلين، تلعن الكونية والانسنية والعقلانية و الديمقراطية .. ، بسبب ازدواج المعايير الغربية في حقوق الإنسان وفي الديمقراطية.. ، وتطالب بما قد يصبح شكلا جديدا من الهووية ياخذ عند البعض ، تعالما هو أقرب إلى التجاهل ، لبوس الديكولونيالية التي هي منه براء .. على الأقل في نسختها اليسارية ،أو لنقل في نسخها اليساراتية المتعددة والمتنوعة تنوع احلام الشعوب بالحرية.
هنالك نقد ونقد للراسمالية وللكولونيالية ولغيرهما ؛ نقد من اليمين ونقد من اليسار . وهذا الأخير لا يكون إلا من منطلقات كونية جديدة وبالتالي انسنية جديدة لا يكون للديكولونيالية من معنى دونهما سوى أن تكون ديكولونيالية يمينية مضادة تقع في فخ مضاددة الكولونيالية- باسم الجنوب و/أو الشرق الماخوذبن كجوهرين مقابلين للشمال و/او للغرب تماما ولكن في اتجاه معاكس لا غير لما فعلت و تفعل الكولونيالية - وتنزلق مثلها الى رؤى ضيقة عرقية و اثنية وقوميةو دينية ومجالية ..جنوبية أو شرقية.
لقد أهدت غزة لفلسطين اسمها الذي عرفتها به البشرية منذ ان كانت منطقة غزة الكبرى تسمى أرض الفلستيين les philistins . و أهدت ايادي نسّاجي غزة منذ قرون لطب الجسم البشري الضمّادات الطبية التي تحمل اسمها إلى اليوم في اللغات الأوروبية نفسها ( Gaze/ Gauze) .
و ها هي بدم شرايينها ، وبأيادي مقاتليها التي تحاكي ايادي نساجيها ، تهدي ضمير الانسانية في خمسين يوما دروسا في نقد البربرية المعاصرة 'من المسافة الصفر' الفكرية والسياسية والأخلاقية لم تصل إليها اكثر نظريات ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار تجذرا لأنها نظريات ظلت سجينة رأسمالية استغلالية /طبقية ، وعنصرية/ عرقية، وذكورية/ جنسية، وشوفينية /قومية ، ومركزية /ثقافية ، و تدميرية/ بيئية، .. وهي، غزة، تعطي بذلك انبل معنى لقضية فلسطين بان تحولها ،في نفس الوقت، إلى قضية وطنية وقومية و إنسانية .
يا ايها المثقفون والمناضلون التونسيون والعرب ،
لا تخونوا ذلك معرفيا وسياسيا واخلاقيا ، ولو باسم برّاق جديد هو الديكولونيالية..التي ستكون عندها يمينية ، بأن تجعلوا منها مطية لثنائية جديدة،مقلوبة لاغير، بين الكونية والخصوصية وبين الوطنية او القومية والاممية ،الخ.، بل اجعلوا منها جسرا معرفيا وسياسيا واخلاقيا جديدا حتى تصبح معركة غزة نقطة انطلاق جديدة نحو مركّب جديد من كونية -انسنية - ديكولونيالية جديدة تعيد تاويل وتغيير العالم ، يساراتيا متعددا جديدا ، باتجاه ديمقراطية انسنية جديدة.
ان الكونية والانسنية والعقلانية و الديمقراطية ... هي اجنّة مكاسب بشرية جرى تشويهها و استثمارها رأسماليا ، شماليا وغربيا ، وحان وقت تثويرها و تأميمها ..امميا ، معرفيا وسياسيا واخلاقيا، وليس وقت ' رمي الرضيع مع الماء الوسخ ' - كما يتسرع البعض - لان ذلك لن يخدم اليوم ،عالميا، إلا البربرية المتغطرسة الرأسمالية النيوليبيرالية ولن يخدم غدا ،في 'احسن الحالات'، إلا امها ' الناعمة' : البربرية الليبرالية ..ولكن الرأسمالية، ولن يخدم، محليا، إلا التبعية والتطبيع والاستبداد ..وكل اصناف معاداة الحرية .
غزة لا يجب ان تكون مقبرة الكونية والانسنية والعقلاتية و الديمقراطية.. بل مشروع مصحّة تعديل تشوهاتها الخلقية لتضميد الجراحات الانسانية التي سببتها خناجر الرأسمالية الكولونيالية وأولها ،هناك، خنجر الصهيونية.. فلا تفقدوا البوصلة!