( رسالة ما بعد انتخابية هادئة إلى النخب التونسية )
المأساة :
عندما تستهدف اضعاف النخبة ،وخاصة النخبة المعارضة، باسم الشعب و يكون برنامجك /مشروعك السياسي هو اللابرنامج/ اللامشروع الشعبوي ، وعندما لا يكون لهذه النخبة المعارضة لك برنامج/ مشروع مضاد إلا برنامجها القديم المحشو في ادمغتها النخبوية، أو بعض الجماهيرية، القديمة او برنامجها 'الجديد' الموجود فحسب في ادمغتها النخبوية القليلة ، فستنتهي انت ومعارضوك من النخبة القديمة والجديدة وحيدين تتبادلون ،في القمة، التهم كل يقول انه افْشلَ الاخرَ ، والحال انه افشلُ منه وأفشلُ من ان يفشله، وسيهتم كل واحد من العامة ،في القاعدة، ببرنامجه/مشروعه الفردي و/او العائلي الخاص في الحياة و تدخل السياسة في سبات يشبه المماة يتحمل مسؤوليته الجميع ،نعم ، و،لكن، انت اوّلهم طالما انك انت وليس خصومك من يمسك بالحكم ويقود الشعب ويسلك ،مفارقة، سلوك المعارضة.
الملهاة :
عندما تكابر، وانت صاحب 'الفكر القاعدي' ، حتى وانت تعجز عن إقناع الشعب الذي تحكم باسمه بممارسة أبسط ،ولكن حسب رايك اهم، فعل سياسي إيجابي الذي هو الانتخاب المحلي القاعدي تحديدا. وعندما تفعل النخبة المعارضة نفس الشيء بالضبط، ولكن من الناحية المقابلة، وهي تتعمد خلط عزوف العامة، اليائس/الغاضب من الجميع، بالمقاطعة السياسية ،المعارضة النشيطة ،ضد الحاكم ، لتوهم نفسها بأنها هي التي تنتصر والحال ان القديم الاكيد منها يسحب إلى الوراء والجديد المزعوم منها معلق في الهواء ..فتاكد ان الجميع منهزم و يحتضر.
طريق النجاة .. الاصلاحية!
الشعبوية، الوسطية منذ انطلاقتها و ليس اليمينية كما تسرع البعض، مهددة الآن بالتحول الفعلي ،حتى غصبا عنها وعن نواياها الوسطية ، ولكن عبر طريق خاص، إلى اليمين بسبب تعطل مسار الإصلاح المماسس المطلوب وليس السطحي المفروض، لأسباب داخلية ،منها الذاتي في الشعبوية ، ولاخرى خارجية ..ليس أقلها مواقف القوى والمؤسسات المالية الدولية.
المعارضة اليمينية لن تجد لها ،قريبا، طريقا ،شعبية، إلى السلطة لأنها جربت واجرمت طوال عشرية . ولكنها قد تنجح في ذلك إذا إعادتها الأجهزة الرسمية والقوى الإقليمية والدولية بعد التمكن في فرض انقلاب في المعادلة السياسية .
المعارضة الوسطية واليسارية لن تجد لها، لا قريبا ولا بعيدا، طريقا إلى السلطة إلا رديفا للقوى الأساسية اليمينية القديمة أو الشعبوية الحالية الا إذا حدث أمر جلل يخرق التاريخ وهو مستبعد الان في الساحة التونسية غير ذات الخصوصية الخارقة كما هو الامر في دول أخرى تفوقنا في الامكانية .
المساندة النقدية لن يكون لها من دور سياسي كبير طالما هي لا تمثل اصلا إلا كسورا هزيلة من كَسر عُشر الناخبين المساندين للتجربة الشعبوية ، وهي تغامر بنفاذ المتبقي من رصيدها الاعتباري بإسناد سياسة ليس لها عليها حتى قوة رقابية ،ولا تسل عن القوة التعديلية، لانها لم تعبر أبدا عن أي جرأة نقدية ..جذرية.
المتغير الاوزن الان، من خارج النخبة السياسية، يبقى المنظمة النقابية رغم ترهل في بنيتها النقابية وحركيتها السياسية . ولكنها القادرة وحدها ،حسب ما ستسلك من سياسة ،اختيارا أو اضطرار ا ، على إنقاذ كل عملية سياسية بشرط مسك العصا من الوسط الوطني الاجتماعي الديمقراطي مع السلطة و منظمة الأعراف و مع القوى والمؤسسات الدولية، مع قبول أجهزة الدولة العسكرية والأمنية بقواعد اللعبة السياسية.
طريق الامل الاصلاحي الواقعي الوحيد الآن هو اذن إعادة صياغة معادلة داخلية /دولية تصلح الشعبوية الوسطية وتقربها،رغما عنها ، بطريقة ما، من الشعبوية اليسارية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية ( عبر اصلاحات جذرية تقطع الطريق عن النيوليبيرالية) و ،مفارقة ، في نفس الوقت ، من الديمقراطية التمثيلية في المجالات السياسية ( عبر تعديل اطار الحرية السياسية بدءا بنصوصه الدستورية التسلطية وقوانينه الانتخابية الاعتباطية والقوانين والممارسات الزاجرة او السالبة للحرية التي أدت، فيما أدت اليه، إلى اعتقالات مجانية قياسا الى ثمن الخسائر الوطنية .. ) بما قد يسمح بفرز جديد قد يمس حتى صقور وحمام بعض القوى اليمينية .
وهذا ،داخليا، لن يتحقق إلا بمراجعة جذرية،اولا وبالذات، من السلطة نفسها، و،بالتبعية لها ، من المساندة النقدية ،مراجعة تسمح بتقارب الشعبوية ومسانديها مع المعارضة اليمينية و الوسطية واليسارية المعتدلة والمنظمات الكبرى الوطنية ..هذا إذا سمحت بذلك الأزمة الاقتصادية (التي لم يسبق أن وصلت إلى درجة الضرب الحالية في عظم الطبقات الوسطى والشعبية ) والقوى الدولية (التي هي الان في مرحلة كسر عظام جيو- استراتيجية على خلفية القضية الفلسطينية ) ، و التي قد تدفع إلى الانفجار الانسحاقي اصلا ..ولا افق أراه لانفجار انبعاثي تنقصه كل شروط الإمكان الضرورية.
كان بإمكاني الحديث عن طريق الامل الثورية حفاظا على طهرية سياسية وايطيقية . ولكنني لست من محبذي اضغاث أحلام اليقظة السياسية حيث لا تنظيمات قوية ولا مشاريع جديدة وجدية ولا موازين إقليمية ودولية.وافضل الآن المكوث في موقع 'المعارضة الإيجابية' المتميزة في نفس الوقت عن المساندة النقدية وعن المعارضة السلبية ، ولا ابني صرحا من خيال رهانا على احتمال انتفاضة شعبية لن ادينها ان حصلت ولكن لا اتمنى حدوثها إلا عند نضج أزمة ثورية تنقصها في العالم كله شروط أساسية. ولذلك فشعاري في تونس منذ سنوات هو ' الانتهازية الثورية' التي هي مجرد 'إصلاحية تقدمية' لانني أفضل، الآن وهنا، إصلاحية ناجعة وناجحة على ثورجية 'فاجعة' و فاشلة..ثم لكل حادث حديث ولكل مقام مقال!
هل يوجد 'عقل عملي' يقدم على هذا دون مكابرة سياسية ؟
أشك في حصول ذلك الان بعقل تاريخي ثاقب يتصرف بصورة إرادية بحثا عن كتلة تاريخية تنجز تسوية تاريخية تنقذ من الأزمة الحالية..ولكنني اتمناه . وارجو ان لا تحصل القناعة بذلك إلا بعد فوات أوان اللحظة التاريخية لأننا لسنا الآن في مرحلة توفر رفاه سياسات التسويف و الانتظارية المبرقعة بخطاب الانتصارية، بل نحن تقريبا في مرحلة انفجارية كل تأخر في معالجتها قد يصبح سياسة انتحارية !