تقديم :
بمناسبة ما يحصل أخيرا من حوارات حول حدود الانتقال الديمقراطي في تونس و الديمقراطية عموما و الخلط الذي لاحظته كثيرا في صفوف أصدقاء ورفاق يساريين تونسيين أعتبره ناتجا عن تصور تقليدي تجاوزه الزمن و لا يكاد يختلف عن غيره في بنيته الذهنية وهو لذلك -من بين أسباب أخرى عديدة - لا ينتصر في مجتمع مثل تونسن، رأيت أن أبدي رأيي باختصار فايسبوكي في المسألة من خلال كلمتين مختصرتين قليلا ولكن مكثّفتين .
كلمة أولى عامّة :
-1-اليسار الماركسي -اللينيني يقيّم الديمقراطية نظريا وسياسيا وعمليا وفق منظور طبقي وهو مصيب في ذلك كثيرا ولكنّه يقترف بسبب اعتبار ذلك المنظور دون غيره المنظور العلمي و الثوري الوحيد الصحيح خطئا قاتلا لنفسه قبل غيره.
-2- فهو نظريا و عمليا أكثر من ينتقد حدود الديمقراطية البورجوازية بوصفها ديمقراطية بورجوازية و
-3- هو نفسه أكثر من يدعو الى المحافظة عليها بعد وجودها و عندما تكون مهدّد ة لأنّها مكسب تاريخي وسياسي كبير و
-4- هو أكثر من يدعو الى الاستفادة القصوى منها خاصة في فترات الركود و/أو التراجع الثوري و
-5- بل هو أكثر من يدعو الى توسيع تلك الحدود الى أقصى حدودها الليبيرالية نفسها لتربية الجماهير قبل مراحل الأزمة الثورية التي تحتم المرور الى الثورة و
-6- هو الذي يفترض أن يكون أذكى من يقوم بذلك خاصة عندما يكون ضعيفا جماهيريّا للحفاظ على تنظيماته و مناضليه وعلى تنظيمات و مناضلي الطبقات الشعبية من خطر التراجع عن تلك الديمقراطية خاصة وأنه عادة ما يكون خارج دائرة مؤسسات الأمن والجيش في الدولة و خاصة عندما لا تسنده من الخارج دولة أو دول ثورية و
-7- لكنه كان تاريخيا يسارا لا ديمقراطيا بمعنى ما هو الآخر،اذ بحجة أن "كل ديمقراطية هي في نفس الوقت دكتاتورية" استنتج ضرورة المرور الى دكتاتورية أخرى هي "دكتاتورية البروليتاريا" التي كانت لها ، بسبب اعتبارها الرؤية الوحيدة العلمية والثورية ، علاقة سياسية سيئة (وليس اقتصادية-اجتماعية سيئة بالضرورة ... ) مع قاعدتها الطبقية -الشعبية الخاصة نفسها ، علاقة أسوأ حتى من علاقة الديمقراطيات/الدكتاتوريات السياسية الليبيرالية مع قاعدتها البورجوازية وذلك عندما نظر هذا اليسار الى فكرة الحزب الواحد داخل الدولة و الخط الواحد داخل الحزب نفسه و الزعيم الواحد داخل ذلك الحزب ، وذلك ما سهل على الليبيراليين الربط بين اللينينية- الستالينية و الفاشية-النازية فسقطت التجربة من الداخل واسقطت من الخارج في نفس الوقت لأن الثورة اليسارية الكلاسيكية كانت تأكل أبناءها في الداخل في نفس الوقت الذي كان يأكلها فيه أعداؤها من الخارج .
كلمة ثانية خاصّة :
انقدوا نظريا ماشئتم الديمقراطية البورجوازية التابعة التونسية وحودها ، وانقدوا سياسيا ما شئتم 'الانتقال الديمقراطي' التونسي وحدوده ولكن ،ان كنتم حتى يساريين ماركسيين-لينيين ، ادعوا الى تثمين كل ما تحقق من هوامش و استفيدوا مننها دفاعا عن الفقراء و دافعوا عنها ضدّ من يريد التراجع عنها بل وناضلوا لتوسّعوا تلك الهوامش الى أقصاها الليبيرالية نفسها خاصة وأن الوضع في مرحلة ركود -بل تراجع- ثوري وأن اليسار في أضعف حالاته الفكرية والسياسية والتظيمية و الجماهيرية ولا تأثير له لا على أمن و لا على جيش و لا سند له من أية دولة ثوريية في الخارج بحيث أن كل تراجع عن أبسط مكاسب الديمقراطية سيكون لصالح اليمين الذين لا يغرّنّكم صراعه ،خاصة اذا كان لا ديمقراطيّا…
وعليكم بمراجعة تصوراتكم القديمة التي تعتبر نفسها الوحيدة العلمية والثورية دون غيرها من باقي التصورات اليسارية نفسها ،ناهيك عن غيرها، لأنّ ذلك هو ما سيجعلكم تتهمون كل من يختلف عنكم بالتحريفية/الانحراف و الخيانة/الرجعية وهو ما سيجعلكم لا تتكاثرون سوى بالانقسام وتخسرون كل رفيق وكل صديق وكل حليف يختلف معكم لأنّه لا أحد يرافق و يصادق ويحالف من يعرف أنّه يعدّ له لائحة الاتهامات القديمة ايّاها ويجهّز له "سرير بروكوست" في معسكر الثورة مسبّقا.
واعلموا أن الديمقراطية اليسارية لن تنتصر على الديمقراطية الليبيرالية الا اذا انتصرت عليها سياسيا أيضا،اضافة الى الانتصار الاقتصادي و الاجتماعي الذي بالمناسبة لا تضمنه البيرقراطية الاشتراكية دائما ، وذلك بأن يقبل اليسار،على الأقل، أن تضمن الديمقراطية الاشتراكية لليسار ما تضمنه الديمقراطية الليبيرالية - وليس الفاشية- لليمين من حيث التمثيلية الطبقية : التعددية الفكرية و السياسية والتنظيمية اليسارية،وذلك لأنّ الاشتراكية ليست تنظيما علمويّا للمجتمع -يقابل التنظيم المقدس الديني له مثلا - ولأن الطبقات العاملة والفلاحية و البورجوازية الصغيرة الاشتراكية ليست فقيرة فكريا وسياسيا و تنظيميا الى الدرجة التي ،على عكس البورجوازية، لا يجب أن يمثلها سوى حزب واحد في الدولة وخط واحد في الحزب وشخص واحد على رأسه تتم عبادة شخصيته وكأنه رسول البروليتاريا الذي ينزل عليه الوحي من "اله التاريخ" أو كأنّه امامها المعصوم ومُلهم فرقتها الناجية.
-عوضا عن الخاتمة : الى سلفيي اليسار التونسي تحديدا !
أعرف أن أغلبكم يعتبر الاسلام السياسي عموما -وبعضكم يعتبر الاسلام اصلا- العدوّ الأكبر لليسار في تونس وأدعوكم الى المقارنة بين بنية ذهنيتكم اليسارية وبنية ذهنيته الدينية- مع كل الوعي بالاختلاف الاجتماعي السياسي طبعا حتى لا ينحرف النقاش في هذا الاتجاه - لعلّكم ترون أنفسكم في مرآة عدوّكم هذا فتتغيرون و ذلك كما يلي :
1-ما الفرق بين الذي يعتبر اسلامه الخاص هو وحده الاسلام الصحيح و الذي يعتبر يساريته الخاصة هي وحدها اليسارية الصحيحية؟
2-ما الفرق بين الذي يعتبر خلفاءه الراشدين وحدهم الأقرب الى سنة الرسول و الذي يعتبر قادته اليساريين وحدهم الأقرب الى فكر/ممارسة ماركس؟
3-ما الفرق بين الذي يعتبر فرقته الاسلامية وحدها الفرقة الناجية من النار و الذاهبة الى الجنّة و الذي يعتبر حزبه اليساري وحده الحزب الناجي من الليبيرالية والذاهب الى الشيوعية؟
4- ما الفرق بين الذي يعتبر الاسلام خاتم الديانات التوحيدية و الذي يعتبر الماركسية خاتمة النظريات الاشتراكية ؟
5- ما الفرق بين الذي يعتبر الاسلام وحده صالحا لكل زمان و مكان و الذي يعتبر الماركسية وحدها صالحة لكل زمان و مكان؟
6-ما الفرق بين الذي يعتبر الاجتهاد الديني غير جائز الا ضمن ثوابت الشرع بعد ضبط قواعد كلامية-فقهية صارمة له و الذي يعتبر أن التطوير النظري غير جائز الا ضمن ثوابت النظرية بعد ضبط قواعد نظرية-سياسية صارمة له ؟
7-ما الفرق بين الذي يعتبر الهدف النهائي هو تحويل أغلب البشر الى مؤمنين -مسلمين و اخضاع الأقلية والذي يعتبر أن الهدف النهائي هو تحويل أغلب البشر الى ملحدين-شيوعيين واخضاع الأقلية؟
8-ما الفرق بين الذي يعتبر الجهاد (جهاد المال والفكر و النفس بما فيه الجهاد المسلّح) فريضة دينية أساسية لأسلمة المجتمع و الذي يعتبر العنف الثوري فريضة نضالية (اضافة الى الدعاية والتحريض والتشهير و التظيم...) أساسية لتثوير المجتمع؟
9-ما الفرق بين الذي يعتبر مخالفه في الاسلام مرتدّا أو زنديقا أو منافقا أو مسلما غير سويّ و الذي يعتبر أن من يخالفه في يساريته مرتدّا أو تحريفيّا وانتهازيا يمينيا أو وسطيا أو يسراويّا؟
10-وما الفرق بين الذي لا يعتبر الديمقراطية الليبيرالية سوى مرحلة انتقالية للوصول الى دولة الاستبداد الاسلامية و الذي لا يعتبر الديمقراطية الليبيرالية سوى مرحلة انتقالية للوصول الى دكتاتورية البروليتاريا ؟
أكتفي بهذه الأسئلة وأختم بالتذكير - مكتفيا بالجوانب الذهنية فحسب : عندما لا تختلف البنية الذهنية الفكرية-السياسية المحافظة السائدة في المجتمع عن البنية الذهنية المفترضة ثورية فيه فهذا يعني أمرين على الأقل :
-احتمال انتصار البنية المحافظة وأصحابها يكون اكبر في المجتمع.
- استحالة انتصار البنية الثورية دون تثويرها هي نفسها من الداخل.
ولذلك يمكن القول : انّ تجديد اليسار هو شرط استمراره الآن ونجاحه لاحقا، ولكن لن يتم ذلك الا بعد الوعي بأمرين أساسيين حسب رأيي :
- ان البروليتاريا هي شكل تاريخي من الطبقات المنتجة الشعبية لا غير وهي ليست لا 'طبقة التاريخ المختارة 'ولا 'خير طبقة أخرجت للناس' ولا 'خليفة التاريخ في المستقبل' ،الخ.
- وانّ الماركسية هي شكل تاريخي من النظريات اليسارية لا غير و ان كانت أهمّها ، وهي ليست لا نظرية' نهاية التاريخ ' العادلة والخيرة والجميلة الوحيدة و لا 'علم أعمّ قوانين الطبيعة والمجتمع و الفكر' الوحيد الصحيح ولا "الوريث الشرعي -الوحيد- لخير ما أبدعته الانسانية"،الخ.
كلمة أخيرة:
أكرّر أنني لم أعالج هنا سوى مسألة البنى الذهنية التي لا تفسّر وحدها ما يحصل في التاريخ طبعا،
ولكنني أعتبر أن تغييرها ضروري للمساهمة في صناعته بوصفها بنى باراديغمية- أو منظورية - توجه الفكر و الممارسة . فليس الغرض هنا المساواة بين مساوئ الحركات اليسارية والاسلاموية والليبرالية و القومية وغيرها كما قد يتوهم خصوم اليسار، بل الهدف هو تخليص أثمن ما يتفوق فيه اليسار عن غيره ،وعن جدارة ، من قيم تثمين العقل و العمل و الابداع و العدل و المساواة والأخوة الانسانية و الحرية ، من البنى الذهنية اليسارية القديمة التي اشتغلت كآليات هدم ذاتي غير ديمقراطية اضيفت الى معاول تخريبه الخارجية.