ليست هذه الملاحظات تقنية-انتخابية لأنني لست مختصا في الأمر، بل هي ملاحظات سياسية -انتخابية بالأساس.وهي ملاحظات مختصرة، ولكن ليست جامعة، و هدفها الاشارة الى بعض المسائل التي أعتقد أنها مهمة لا غير .
1- قيس سعيّد لم يعد قاعديّا .. كما كان:
بعد أن كان الرجل يدعو الى تقسيم البلاد (في الداخل لوحده ) إلى 265 دائرة بعدد المعتمديات حيث تقوم الانتخابات في البداية في العمادات ليقع اختيار نائب عن كل معتمدية بعدها، وهو ما جلب له "تهمة الديمقراطية المباشرة"،هاهو ينزل بعدد الدوائر الى 151 فحسب (مع 10 في الخارج) بحيث ينقص 114 دائرة/نائب و الحال أن الديمقراطية القاعدية هدفها المزيد من تمثيل المواطنين. أكثر من ذلك، يتراجع قيس سعيد حتى على مستوى التمثيلية الديمقراطية للبرلمان السابق الذي كان به 217 نائبا!
ولئن كان هذا تقدّما في اتجاه الابتعاد عن 'الديمقراطية القاعدية'- التي كان برنامجه الرئاسي يضعها في قلب الرحى - وتأقلما مع ما كان يرفضه من 'ديمقراطية تمثيلية' إلا أنه تقدّم مبالغ فيه يكاد يصل إلى السير في الاتجاه المعاكس في مسألة الدوائر/التمثيلية.
...2- قيس سعيد يبقى قاعديّا بشكل ما :
إلا أنّ ادراج فكرة التصويت على الأفراد (في دورة قابلة للاعادة) وفكرة سحب الوكالة من النائب بشروط تقديم عريضة (واحدة في كل دورة) من 10/100 من الناخبين في الدائرة عبر اعادة التصويت تجعله يبقى قاعديّا..جزئيّا! وليس التصويت على الأفراد بدعة تونسية كما أن إقرار مبدأ سحب الثقة يمكن أن يساعد على تنظيف الساحة التشريعية.ولكن الخوف هنا ليس من المبدأ بل من ظروف ممارسته التونسية.فالتصويت على الأفراد يعطي -موضوعيا- قيمة للفرد أكثر من التنظيم (الحزبي مثلا) وسحب الثقة (رغم تنظيمه بعريضة من عشر الناخبين وباعادة الانتخابات بشرط رفض الأغلبية المطلقة للنائب ) قد يؤدّي الى استسهاله لأن العشر سهل الجمع حتى ضدّ من نجح في الانتخابات بتسعة أعشار كاملة. وهذا يعني أن النسبة المطلوبة في العريضة ضعيفة وتفتح الباب على الاقدام على العملية في كل دورة نيابية (كما هو مشروط في القانون).
…
3- قيس سعيد يسيء توزيع الدوائر الانتخابية:
ببساطة،لو أن قيس سعيد حافظ ،مثلا ، على الرقم 217 نائبا وربطها بالدوائر لكان توزيع هذه الأخيرة أفضل، ليس في مسألة النعرات القبلية و الجهوية التي قد توجد في تونس أيا كان النظام الانتخابي بل ، في مسألة التمثيلية التي تهمنا أكثر هنا . لو فعل ذلك لسهل كثيرا الاقتراب من تحويل أهم المعتمديات الى دوائر انتخابية وزاد من مستوى التمثيلية الديمغرافية/الجغرافية في المجلس المقبل والتي تعني أن النائب يمثل أقلّ ما يمكن وأقرب ما يمكن من الناخبين للاقتراب من الديمقرادية المباشرة ما أمكن،وهذا لن ينفي امكان ادماج أكثر من معتمدية في دائرة واحدة أو إعطاء معتمديات صغيرة الحجم صفة الدائرة ،وهو أمر قد يحدث في أي دولة .
4- قيس سعيد قد يفتح مجلس النواب أكثر أمام الأغنياء :
بإلغاء التمويل العمومي للمترشحين يقع التخفيف على ميزانية الدولة ،نعم، ويقع منع من هبّ ودبّ في الطمع في ذلك التمويل دون القدرة ربما على ردّه لاحقا لو فشل في الحصول على النسبة المطلوبة لعدم الرّدّ ،نعم. ولكنّ الاقتصار على التمويل الذاتي (للفرد) و الخاص( للحزب المرشح لذلك الفرد مثلا) يعني إعطاء من له أموال أوفر حظا أوفر في القيام بالحملة الانتخابية بشكل أفضل حتى ولو وجدت طرق مراقبة ومحاسبة من حسن الحظّ..و أعتقد أنّ قيس سعيّد لم ينتبه الى هذا لسبب أساسي : لأن ذهنه لا يزال يفكر بمنطقه القديم في الانتخاب في العمادة كما كان يفكر وذلك فعلا كان سيضعف من أهمية المال في الانتخابات نسبيا،أما وقد تبنى الدوائر الحالية كصيغة فإن مسألة التمويل ستحدث عليها تغييرات لا محالة وهو ما يبدو قد أهمل.هذا مع العلم أنه من الناحية القانونية الصرف لا يوجد تمييز بين المترشحين إذ هي مسألة واقعية وليست قانونية.
5- قيس سعيد قد يفتح مجلس النواب أكثر أمام الأحزاب الكبيرة:
النقطة الايجابية التي يجب تسجيلها بداية( منذ الفصل (3 مطّة 3) هي عدم تضمين القانون الانتخابي فكرة منع الأحزاب من تقديم المترشحين و ممارسة الدعاية الانتخابية لهم -وهي فكرة كانت عنده وعند بعض أنصاره الى وقت قريب . لكن، وكما تدلّ تجارب أغلب دول العالم، عندما يكون التصويت على الأفراد في دوائر متوسطة (كما هو الأمر في تونس بهذا القانون) أو كبيرة فإن الأحزاب الكبرى هي التي تكون محظوظة أكثر في الفوز وذلك ليس في مستوى كل دائرة وبالتالي في المستوى الوطني. وسيزيد اقرار التزكية (400 شخص) في ذلك رغم أنه سيعفي الدولة من مصاريف قبول آلاف المترشحين الذين لا يملكون من يزكيهم. إنّ النتيجة سوف تكون 'مركزة' الهيمنة الحزبية..إلا في حالات تحالف الأحزاب الصغيرة الواسع جدا وراء شخصيات نوعية،وهو أمر صعب في تونس الآن بسبب الفرقة السياسية التي نعرفها ..ويا ليته يحصل لصدّ تغول الأحزاب الكبيرة المحتمل .
...6- قيس سعيد قد يخلق مشكلا في المهجر:
لعلّ فكرة منع ازدواج الجنسية على المترشح بالداخل التونسي مقابل السماح بها للمترشح بالمهجر جيّدة لأنّها تعي ظروف المهاجرين. ورغم أنها قد تخلق حساسيات إلا أنها يمكن أن تقبل لدعم تونسة السلطة التشريعية . ولكن، إضافة إلى ضعف تمثيلية المهاجرين الواضحة( 10/ 161) بما لا يناسب حجمهم ضمن عموم التونسيين،فإن المشكل الذي قد يطرح في الخارج سيرتبط أساسا بدوائر معينة مثل دوائر 'باقي الدول الأوروبية' و 'الدول العربية' و'آسيا واستراليا ' و 'افريقيا' و'الأمريكيتين ' حيث الانتشار الجغرافي التونسي متباعد جدّا إلى الدرجة التي قد لا يفلح أي مترشح في بعضها في توفير التزكيات (400) أو،إن حصل، سيكون ممكنا فحسب للأحزاب الكبيرة و الأفراد ذوي الامكانيات المالية الضخمة. وكان من الممكن الانتباه الى هذا و معالجته بصيغة خاصة مثل تقسيم التزكيات بين الخارج (موطن الاقامة) و الداخل (دائرة الولادة) مثلا،أو أي صيغة أخرى.
7- قيس سعيّد يمنع مشاركة بعض المواطنين في الترشح لمجلس النواب :
في 'الفصل20 جديد ' وردت فكرة منع بعض موظفي الدولة وبعض المواطنين من الترشح لمجلس النواب الا بعد مرور سنة من انتهاء وظيفتهم وهم أعضاء الحكومة ورؤساء الدواوين والقضاة ورؤساء البعثات الديبلوماسية والقنصلية و الولاّة و المعتمدون الأول و الكتاب العامون للولايات و المعتمدون و العمد والأئمة ورؤساء الهياكل و الجمعيات الرياضية. ويوجد خلط هنا بين الموظفين (الذين يمكن قبول منعهم) وبين أعضاء الحكومة (وهم ليسوا موظفين بالمعنى السابق للكلمة، ولكن يمكن قبول منعهم من ذلك قياسا) و خاصة رؤساء الهياكل و الجمعيات الرياضية الذين لا يختلفون عن كبار الفنانين أو مشاهير الرياضيين (الذين لا يتحملون مسؤولية ادارية) أو كبار رجال الأعمال في شيء من حيث قدرتهم على تجييش الأنصار انتخابيا. وإن منعهم ،وإن كان ظاهره يبدو معقولا، يمكن اعتباره تعديا على حقوقهم السياسية . و حتى فرضا لو قبلنا بذلك فلا نفهم وقتها لم لا يرد منع رئيس الجمهورية نفسه ،وهو كبير الموظفين بهذا المعنى، من الترشح لمجلس النواب الا بعد مرور سنة من انتهاء وظيفته ؟ هذا مع العلم أنه من غير المتوقع حصول تقديم رئيس سابق للجمهورية ترشحه للمجلس التشريعي. ولكن القانون يجب أن يتضمن ذلك من باب المساواة و إلا كان ظالما.
8- قيس سعيد و سوء التعامل مع المرأة :
على عكس ما يقع تداوله منذ صدور المرسوم الرئاسي لا يوجد عيب في غياب التناصف فيه بالمعنى الرائج ولا قيمة لاتهامه بما راج 'النساء تزكّي والرّجال يترشحون' .إن الذين ينقدون المرسوم من هذه الزاوية مازالوا يفكرون بمنطق التناصف في القائمات في حين أن المرسوم يؤكد مبدأ الترشح الفردي . والمترشح الفرد ليس ذكرا في المرسوم ... ولا يمكن للفرد أن'يتناصف'!
إنّ نقطة الضعف هنا هي في عدم وجود صياغة تحث على طلب التناصف من الأحزاب (أو القائمات) التي ستقدّم مترشحين أفرادا في أكثر من دائرة انتخابية وليس التناصف في الدائرة الواحدة. ولكن المشرّع يمكنه أن يكتفي بما ورد و يحمل المسؤولية للسياسيين هنا،خاصة وأنه طالب بالتناصف في التزكيات (وبالربع للشباب) مما يدلّ على عدم رفضه للمبدأ .ولكن المشكل أن قيس سعيد لا يوى ذلك لأنّه يفكر في الأفراد فحسب ويستبطن (دون أن يكتب ذلك) تهميش الأحزاب التي ترشح قائمات (وليس تهميش النساء) من العمل السياسي. ولكن النتيجة الموضوعية يمكن اعتبارها سلبية هنا إذ كان من الممكن التنصيص على التناصف في حال تقديم أكثر من مترشح (أي الترشح في أكثر من دائرة) .
9- قيس سعيد و نسيان الشباب :
لا وجود للشباب في المرسوم الا في ضرورة تمثيله لربع قائمة المزكّين/المزكّيات للمترشح (100/400) على الأقلّ وهو نقص واضح في القانون يرجّح أن سببه هو نفس سبب إهمال مبدأ التناصف كما قلنا أعلاه. إن عدم التفكير في من سيقدّم أكثر من مترشح في أكثر من دائرة انتخابية بما يسمح بادراج مبدأ التناصف هو نفسه سبب عدم إدراج نسبة شبابية من بين المترشحين في الانتخابات. إن تحاشي التفكير في الأحزاب السياسية هو سبب غياب مطلب التشبيب باستثناء وجودة في مسألة التزكيات. ولكن ،مرة أخرى، يمكن للمشرّع ألا يفعل ذلك ويترك الكرة في مرمى الأحزاب وغيرها ويمكنه أن يبرر ذلك بعدم التدخل في شؤونها الداخلية.ولكن هذا التبرير ضعيف خاصة عند مشرّع و في بلد يردّد ان يوميّا أن رأسمال البلاد و الثورة الأكبر هم شبابه.
10- قيس سعيد و ' فلسفة الانتخابات' :
لا يحتوي المرسوم إلاّ على ما يخص المجلس التشريعي . و من المقبول أن يتمّ ذلك دون أي إشارة الى 'مجلس الولايات والأقاليم ' رغم أنّ من يقرأ الدستور يعرف التداخل بين المجلسين في ما يخص الميزانية و لائحة لوم الحكومة ،الخ. وليس من الممكن الحديث عن 'فلسفة انتخابات' قبل صدور القانون الانتخابي للمجلس الثاني هذا .ولكن ممّا هو متوفّر يمكن الاستنتاج التالي:
هنالك انتقال من النزعة 'القاعدية المتطرّفة' التي كانت تنتقد بشدّة الديمقراطية التمثيلية -التي بالمناسبة لا تتناقض مع التصويت على الأفراد - الى القبول بهذه الأخيرة مع الابقاء على فكرة 'سحب الوكالة' التي لا تتناقض مع مبدا التمثيلية هي الأخرى. ولكن هذا الانتقال يبدو غير متماسك ويظهر ذلك في الخلفية من خلال السكوت عن دور الأحزاب (في تمثيلية النساء و الشباب خاصة ) دون رفضه . هنالك اذن تحول في 'الفلسفة الانتخابية' نحو الوسط يتناغم مع أمور أخرى سياسية واقتصادية. وهذا التحول ذو طابع واقعي ويدلّ على التفاعل مع المعارضة التونسية و الدولية على خلفية الأزمة . وبشكل عام ، لا يعتبر القانون الانتخابي الجديد قطيعة جذرية مع ما سبق، بل إنه أحيانا يتراجع عن مكتسبات تمثيلية سابقة مثل التراجع من 217 الى 161 نائب. و لا يمثل هذا القانون معرقلا كبيرا للمشاركة في الانتخابات الا لمن له موقف سياسي قاطع. وهو زيادة عن هذا قانون قد يخدم خصومه المفترضين من الأحزاب الكبيرة أكثر مما يخدم أنصار الرئيس أنفسهم ومما يخدم الأحزاب الصغيرة ..إلا اذا وجدت تحالفات انتخابية عريضة جدا .
كلمة وطنية إصلاحية أخيرة :
نحن لم ننتقل مع قيس سعيد بالدستور وبالقانون الانتخابي اللذين أصدرهما من الجمهورية الى اللاجمهورية بل ننتقل داخل الجمهورية نفسها بين حالة وأخرى بها تقدّم هنا وركود أو حتى تراجع هناك . و لهذا أهمية كبيرة جدّا من الناحية السياسية لمن يريد أن يفكّر ويمارس بهدوء في بلد يعيش أسوأ أزماته الداخلية منذ 2011 وسط أسوء أزمة دولية يعرفها العالم منذ 2008 . وليس هذا دعوة للالتحاق به وبأنصاره - ويبقى ذلك حقا لمن يريد طبعا - بل دعوة لترشيد الجميع ، سلطة ومعارضة، لحماية البلد الآن من كل أبنائه الموتورين .