منذ صباح الأمس وصورة ذلك الشيخ الفلسطيني الناجي من مجزرة الفجر لم تغادرني.. طُبعت في روحي تلك الصورة وأثخنتها..
أتدرك معنى أن ترفع رأسك عن سجادة الصلاة فلا تجد شيئا.. إلا كومة ركام تنهار فوق رأسك وازيز قنبلة يشق الأرض بجانبك..
صمت الشيخ ولم ينطق.. فقط نظرات تائهة في الفراغ.. لم يصدّق او يستوعب ما حصل.. عندما رفع رأسه عن سجادة الصلاة لم يجد ابدا نفس العالم الذي تركه.. بضعة ثوان كانت كفيلة بانهيار عالمه وحياته.. الموت مرّ بجانبه ،لفح وجهه بأنفاسه ،القي عليه التحية واخذ كل عالمه وانصرف!
اتدرك معني ان تنتهي علاقتك بالحياة في لحظة وتبقى حيا.. اتدرك معني ان لا يبقي من عائلتك الا راحة يد او اصبع قدم.. هناك وجع تعيشه ولا يُقال.. حزن لا تحمله الكلمات..
مصاب يفوق طاقة احتمالنا كبشر.. لا نحسن التعامل معه.. لا نحسن التفاعل معه.. مصاب يحتاج الى آلهة او حجر للتعامل.. اما نحن البشر نتجمّد فقط امامه ونتخشّب !
شيء ما في نظرات الرجل جعلني اتذكر ذلك المشهد العظيم لخالد تاجا في التغريبة الفلسطينية.. خالد تاجا لم ينطق بحرف في ذلك المشهد ولكن ملامحه و نظراته قالت في ثلاثين ثانية كل قصص النكبة مجتمعة.. ذلك الاحساس الذي نقله تاجا للعالم كان يتغذّي من ذاكرة العذاب والتهجير.. وابدع تاجا الذي لم يكن يمثّل بل كان يقول الحقيقة بشكل كامل ودون رتوش..
حاتم علي في ذلك العمل الدرامي لم ينصف الحقيقة فقط بل اعاد احياء جروح الذاكرة وما قصيدة الدكتور ابراهيم طوقان الا جزء من تلك الذاكرة، قصيدة تسافر في عمق الجرح الفلسطيني وتعود لتقوله كل مرة مع كل حدث مختلف :
لآ تسل عن سلامته
رُوحه فوق رَاحته
بدلته همومهُ
كفنا من وسادته
صامت لو تكلم
لفظ النار والدمَ
قُل لِمنْ عاب صمتهُ
خلق الحَزم أبكمآ