حتى لو غادرت الطيور والفراشات والغيمات سماء مخيم جباليا هربا من القنابل الفسفورية والبراميل المتفجّرة وقنص النازحين سيبقى أنس الشريف واقفا بثبات على ارض جباليا وفوق حطام وركام مبانيها ليروي قصة الحجارة التي بقيت تقاوم من أجل الارض والعرض والتاريخ..
سيبقى أنس كأي ملك كنعاني عظيم رفض الهزيمة وبقي يقاتل حتى النفس الاخير.. أنس الشريف ابن مخيم جباليا أين ولدت الحياة من رحم التهجير و الارض المغتصبة.. ابن مدارس الانوروا وأحياء المخيم الذي علّم ابنائه الصبر والجلد والنخوة والصمود..
في جباليا حيث للحياة نهاية معلومة... الشهادة علي طريق الحق والقدس.. عاش أنس حياته كرجل منذ طفولته وربما لذلك نراه اليوم وهو في منتصف العشرينات، بتجربة وحنكة كهل في الخمسينات .. في مخيمات اللجوء لا يكبر الاطفال علي مهل.. يصبحون رجالا مع اكتشافهم لصوت اول رصاصة.
في جحيم غزة ترك الجميع شمال القطاع.. نزح الاهالي وانسحبت طواقم الاعلام.. ولكن أنس رفض ان يغادر.. ان يترك الحقيقة لوحدها.. ان يترك المكان لينفردوا به بعيدا عن أعين العالم رغم رسائل التهديد المتواصل بأن يترك..
بعد بداية الحرب بشهرين قصف بيتهم.. استشهد والده.. أجبر عدد من افراد عائلته علي النزوح.. جرّب الفقد واليتم والفراق ولكنه لم يترك الوحش لينفرد بشعبه.. ظل مصرّا على ان تبقي التغطية مستمرة.. للمظلومين قصة عظيمة من صمود ووجع ويجب ان تصل الى العالم..
سقط زميله و صديقه اسماعيل الغول علي بعد خطوات منه.. احتضن جسده الذي حوّله القتلة الى اشلاء.. ووقف امام الكاميرا بتلك النظرات الثاقبة و ذلك الثبات الملحمي ليكمل قصة اسماعيل وما يرغب في قوله.. ليواصل اداء المهمة..
مهمة ان تكون الشاهد الوحيد الذي وثّق الجريمة في كل تفاصيلها !
وتواصلت التغطية..
منذ ايام تم قنص صديقه المصوّر فادي الوحيدي.. اختنق انس الشريف على الهواء وهو ينقل الخبر.. منذ دقائق فقط كان يركض مع فادي في ازقة جباليا المدمرة لينقل حقيقة قنص النازحين.. ولم يكن يعلم ان فادي سيكون بطل الخبر الموالي علي شاشة الجزيرة.. وهو من سينقل الخبر..
أصيب فادي بشلل تام.. وبقي أنس لوحده مرة أخرى.. في تغطية متواصلة.. ليكمل قصة جباليا و ابادة شعب..
يعلّق الكثير من المتابعين لأنس الشريف ان صوته تغيّر، ملامحه تغيّرت بعد سنة من العمل.. من الاستنزاف الذهني والعاطفي.. من الركض وسط المأساة ليلا، نهارا..
وفعلا تغيّر صوت أنس..ترك الحزن في الملامح والصوت علامة.. ولكن تلك النظرة الحادة ،الغاضبة ،المصممة على اكمال القصة لم تختف بل ازدادات وضوحا..
انظر كل مرة الى انس الشريف..
وأسأل :كيف استطاع ان يصمد.. ان يحافظ على توازنه ورباطة جأشه.. ان يكون بتلك القوة والثبات..
جبل جباليا أنت يا أنس..
و كل العالم يتصاغر امامك عندما تمسك المصدح وتنظر في الكاميرا لتنقل لنا القصة.. تخبرنا عن بطولات تنهض من تحت الانقاض والركام رافضة الموت والعدم. فنقرأ الخبر الذي نقلته كالتالي :
"نحن العدم وأسفل البشر يا أنس.."
الجميع خذل فلسطين دائما.. الا دول أمريكا اللاتينية..
ظلّت دائما منحازة للحق ولم تزد القضية غربة ولم تخن روح الاجداد التي علّمت شعوب العالم الثورة ضد الظلم والطغيان..
على خطى تشي غيفارا اعترفت 19 دولة بدولة فلسطين باستثناء بنما.. علي خطى كل الاحرار 11 دولة لاتنية ظلّت ترفع صوتها وتعارض بقوة العدوان علي غزة..
3 دول هي المكسيك والشيلي وبوليفيا تقاتل علي مستوى محكمة الجنايات الدولية من اجل ادانة قادة الكيان المتوحش دوليا وملاحقتهم !
الرئيس الكولمبي يصدر مرسوما يمنع فيه تصدير الفحم الي الكيان المجرم ويدوّن علي صفحته الرسمية :"بالفحم الكولمبي يصنعون القنابل لقتل أطفال فلسطين.. ولن نسمح بذلك!"
تخسر كولمبيا عائدات تصدير للفحم تقدّر بملايين الدولارات وتربح انسانيتها.. وهذا معنى ان تكون لك اخلاق سياسية في عالم قذر جدا !
ويكاد لا يمضي يوما دون تصريحات منددة بوحشية الكيان تأتي من هناك.. من تلك المنطقة من العالم التي ما زالت تبهر العالم في كل لحظة .. عالم امريكا اللاتينية حيث تجتمع كل المتناقظات ولكن ابدا لم يتخلّ ذلك العالم عن انسانيته وواجبه تجاه البشرية رغم ذلك الشيطان الذي يلتصق بخاصرته ويقود عالم الوحوش وليس العالم الحرّ!
في الاثناء وعلى بعد امتار من منزل كل الانبياء.. تعبث انظمة العمالة والخيانة بكل القيم.. تُعهّر المواقف وتبتذل الكلمات وتختنق الشعوب بأنفاس قادة لا يقودون بل يُقادون!