"الحمّى 42 " يا صافي سعيد !

عرفت الصافي سعيد أول مرة في سنة الجامعة الأخيرة .. لم اعرفه بشكل شخصي ولكن عرفته من خلال أثره الأشهر: " الحمّى 42 ..لا أنبياء ولا شياطين" .. أذكر ذلك اليوم وكأنه البارحة ..ذلك اليوم عدت منهكة من الجامعة ، كان يوما صاخبا وكنّا وقتها بلهاء بما يكفي لنصدّق ان صراخنا الذي تهتّز له صخرة سقراط سيخفف آلام بشر ويغيّر العالم ..

المهم ، ذلك اليوم عدت الى المبيت منهكة ..كان بانتظاري مقتصد المبيت سي رياض كان هناك موعد مؤجّل بيننا للاتفاق على نشاط ثقافي طلابي ..أول ما دلفت مكتبه ..وقعت عيني عليه ..على:

الحمّى 42 ..لا أنبياء ولا شياطين

كان العنوان آسر.. استفزّ كل فضولي ..التقطته بشكل سريع وتصفّحته كمن يلتهم السكاكر .. انتبه سي رياض وقد كان قارىء نهم الى فضولي ..ضعيه مكانه ..قال بنبرة حاسمة ..كان سي رياض لا يحبّ ابدا من يقترب من كتبه ولا يقبل بإعارتها لأي كان ..ولكن فضولي لذلك الكتاب كان اقوى من حبّه لكتبه .. قدّمت تنازلات لإقامة ذلك النشاط وحصلت على الكتاب ..اعارة لليلة واحدة ..فقط لا غير ..وقبلت .

كان الكتاب في نسخته الأولى اقل حجما من نسخة بعد الثورة ..وكان أكثر انسجاما مع الصافي في نسخة الكاتب لا السياسي !

اذكر اني منذ دخلت غرفتي لم اسقطه من يدي الى حدود الخامسة فجرا ..عندما انتهيت من قراءة الصفحة الأخيرة ..لم استطع اغلاق الكتاب ووضعه جانبا ..شعرت أن هناك قصة تنقص الكتاب ..كان مجرّد وهم وقتها .. ولكن الان اعتقد ان ما كان ينقص الكتاب هو قصة الكاتب نفسه ..امضيت هذا اليوم وانا اكتب قصتّه في ذهني لتكون الحمّى رقم 43 .. وانسجم الخيال والالهام مع الكتاب تماما !

الحمّى 42 هو قصة 42 شخصية عبر العالم .. صنعوا تلك الغابة الاستوائية المتوحشة ،التي تسمّى سياسية ..

شخصيات تقاطعت دروبهم مع عالم السياسة وكانوا زعماء او شخصيات تقاطع مصيرها مع ذلك العالم المتوحشّ.. الكتاب كان عبارة عن بورتريهات كتبها الصحافي الصافي سعيد بكثير من الاتقان ..وكل بورتريه استضاف فيه شخصية من بلد ومن قارة مختلفة ..اختلفوا في كل شيء ..واتفقوا على الهوس بالسلطة ..هوس تحوّل الى ما يشبه الحمّى ..حمّى بدرجة حرارة في مستوى 42 .. درجة حمّى الموت ..

كان الصافي سعيد الصحافي محظوظا بمقابلة بعض تلك الشخصيات التي تركت اثرا وبصمة في هذا العالم وفي التاريخ الحديث والبعض الاخر لم يلتق بهم ابدا .. بعضهم انتظره لساعات وعاش مغامرات قاسية من اجل ان يظفر بلقاء لم يتجاوز بضعة دقائق .. والبعض جالسه لساعات او صاحبه في رحلة طائرة كادت أن تكون الأخيرة كما كان الامر مع ياسر العرفات ..

في ذلك الكتاب تعرّفنا الى رجال أقوياء عن قرب.. سامورا ميشيل ، بوكاسا ، بورقيبة ، هواري بومدين ، راجيف غاندي ، ادغار فور ، كاسترو ، ناجي العلي ، بورخيس ، اندريه مالرو ، عبد الناصر ، القذافي ، بن غوريون ، فالدهايم ، اتاتورك وأخرون لم يكن لبعضهم علاقة مباشرة بالسلطة ولكن ظلّ مصيرهم معلّق بها ..حدّثنا عن وسيلة بورقيبة وسرّ الرقم 12 في حياتها الذي صنع كل المفارقات العجيبة التي عاشتها ..علاقتها ببورقيبة ..ذلك الحب الكبير الذي انتهى بهدوء ..

رحلة في عوالم محرّمة ..سير وسط حقل ألغام ..و موت ينتظر في الخارج ان تنهي الحمّى عملها.. ربما بشكل او باخر جعلني الصافي سعيد احب بعض تلك الشخصيات او انقم اكثر على بعضها الاخر ..

كل القصص كانت آسرة ..

ولكن قصة محمد علي أغجا بقلم الصافي سعيد اصابتني بالحمّى.. أحببت علي وكرهته .. كانت تجربة صافي في البحث عن بيته في ارياف تركيا وكل تلك المغامرة المجنونة التي صنعت القصّة، مذهلة ومبهرة بشكل يقطع الانفاس ..

محمد علي اغجا ، الذئب الرمادي الذي ينتمي الى منظمة »الذئاب الرمادية التركية « ..سافر الى الفاتيكان وحاول اغتيال البابا يوحنا بولس عام 81 بإطلاق النار عليه ، ذهب غازيا الى العالم المسيحي ليكمل ما بدأه اسلافه وانتهى في 2007… بعد صدور الكتاب …معتنقا للمسيحية ! وغادر بعد ذلك سجنه لظروف صحية ولكن في تلك الزنزانة التي امضى فيها اكثر من 20 سنة زاره البابا وقام بمسامحته ..

محمد علي أغجا الذي كاد ان يفجّر حربا بين العالم الإسلامي والمسيحي ألهم الصافي سعيد ليتعقّب حياته وذكرياته في تلك القرية التركية النائية وجعلني انا اتحوّل الى مهووسة بالتاريخ التركي الحديث ولم انس ابدا ذلك الذئب الرمادي محمد علي أغجا وهو يطلق النار مكبّرا على البابا لينتهي بين يديه معترفا بحبّه للربّ !

كتب بعد ذلك الصافي سعيد ..سنوات البروستاتا ، الكيتش ،القذافي ..سيرة غير مدنسة ،الاغواء الملكي وكتب كثيرة أخرى ولكن لم تخطفني أي منها كما فعلت تلك الحمّى ..

كنت تعرف يا صافي وبشكل جيد الحمّى .. كنت تعرف كيف تكون درجة حرارة الموت في تلك الحمّى ولكنك اقتربت كثيرا ..ربما اقتربت لتكتب قصة ما وتكمل الكتاب ..

التقيتك مرّة واحدة ..ولم يكن لقاء جيدا ..كنت عاصفا كما انت دائما وكنت لا احب المتشنجين ابدا .. تجادلنا او لنقل تشاتمنا قليلا ..ولكن اليوم اشعر بوخزة في قلبي وانت تبيت في زنزانتك .. من سيكتب بعدك في السياسة.. كم يلزمنا من سنة ليأتي صحافي في حجمك ليفكّر ويكتب بذلك الأسلوب العظيم ..

لماذا لم تترك اهل الحمّى يتقاتلون وتجلس انت لتكتب قصصهم .. لم اقلها لك ابدا ولم اكتبها ..ولكن كتابك الحمّى 42 غيّر مسارات في حياتي ..غيّر قناعات .. وترك في قلبي وروحي اثرا ..شكرا أيها العاصف .. في غيابك فقط السكون والخوف !

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
كريمة
23/08/2024 19:00
مقال مغر لقراءة الكتاب. فرح الله كرب كاتبه وكرب كل مسجون ظلما🤲