حين يُستعمل الخطاب التآمري من قِبل أعلى سلطات الدولة، فإنّ المعركة لم تعد مجرد جدال بين العقل واللا عقل، بل أصبحت صراعًا على الحقيقة، والحرية، والمواطنة. في هذا السياق، يصبح الدفاع عن الحقيقة عملاً نضالياً، والمطالبة بالشفافية واجباً وطنياً، ومقاومة التضليل مسؤولية جماعية. إننا بحاجة إلى شجاعة فكرية وثقافية، لا لمواجهة الأوهام فقط، بل لمواجهة من يصنعها ويُغذّيها باسم الشعب. فحين تُصبح الحقيقة نفسها مهددة، يُصبح الدفاع عنها واجباً أخلاقياً لا يقبل التأجيل.
عندما لا يكون الخطاب التآمري مجرّد ظاهرة هامشية أو نتاج جهل فردي، بل يصبح أداة تُستعمل على أعلى مستويات الدولة، فإنّنا لا نواجه مشكلة فكرية فقط، بل نكون أمام مشروع سياسي متكامل يهدف إلى السيطرة، والإلهاء، وتقويض أسس الدولة الديمقراطية.
في مثل هذا السياق، لم تعد المواجهة تُبنى فقط على العقل والمنطق. فحين تتحول الحقائق إلى موضوع للشك، ويُنظر إلى العلم والخبراء كجزء من "النظام المتآمر"، فإنّ الرشد يفقد سلطته أمام العاطفة والخوف و الإنتهازية المقيتة.
السلطة التي تعتمد الخطاب التآمري لا تفعل ذلك من فراغ، بل تستخدمه لتبرير الفشل، وخلق عدو وهمي، وتفريق المجتمع، وضرب المعارضة. هذا النوع من الخطابات لا يُنتج فقط انقساماً فكرياً، بل يُحدث انقساماً اجتماعياً عميقاً، ويغذي حالة من الارتياب العام الذي يصعب تجاوزه و يرسي تقاليد جديدة في الصراع السياسي تبتعد به من الصراع السلمي إلى ما يمكن ألا تحمد عقباه.
إنّ أخطر ما في الخطاب التآمري عندما يُعتمَد من طرف السلطة، ليس فقط نشر الأكاذيب، بل زرع الشك والفرقة داخل النسيج الاجتماعي، وتقويض الثقة التي تُبنى عليها الديمقراطيات. في هذا السياق، لم يعد الصمت موقفًا محايدًا، بل مشاركة غير مباشرة في صناعة التفكك.
ومن هنا، فإنّ المسؤولية تقع اليوم على عاتق كل القوى الديمقراطية والنخب الواعية، نحن بحاجة إلى جبهة فكرية وثقافية موحدة، لا تكتفي بالتنديد، بل تسعى إلى استعادة الثقة، وإعادة بناء الحوار المجتمعي، والدفاع عن العقل والوطن في آن واحد. نحن نحتاج إلى تواضع كبير مع إقرار بفشلنا جميعا في بناء عقد إجتماعي جديد ينظر إلى المستقبل و ينهي صراعات الماضي الواهية.
فالتاريخ لا يرحم من تواطأ بالصمت، ولا من استسلم للخوف. وإذا لم نتحمّل هذه المسؤولية الآن، فإننا نترك الساحة مفتوحة للانقسام، والعنف الرمزي، ثم الفعلي.
إنّ الدفاع عن الحقيقة اليوم هو دفاع عن الوطن نفسه، وعن فكرة العيش المشترك التي تتآكل بصمت.
و لكم سديد النظر.