لم تتوقّف التحليلات عن أسباب عودة ترامب المُفاجئة وفوزه الذي فاق كلّ التوقّعات وعكْس كلّ الاستطلاعات (التي لم يَعُد يُركَن إليها). في الوقت الذي كان فيه الديموقراطيّون يتوقّعون رؤية ترامب وراء القضبان، ها هو يعود في تحدٍّ غير مسبوق لخصومه وأعدائه. الحزب الديموقراطي تصرّف بثقة مُفرِطة في الحملة الانتخابيّة؛ لأنّ الحزب يحتقر خصومه ولا يرى أسباب نجاحهم.
الخارطة الاقتراعيّة لهذه الانتخابات تُظهر بما لا يقبل الشكّ أنّ الحزب الجمهوري في صعود مستمرّ، وأنّ معظم الولايات (خصوصاً الريفيّة الزراعيّة) باتت مضمونة للحزب الجمهوري. المدن الكبيرة (على الشاطئَيْن) ذات نِسب التعليم العالية باتت هي التي تُرجّح كفّة الحزب الديموقراطي. الحزب الجمهوري بات يسيطر سيطرة كاملة على البِيض، ذكوراً ونساءً، وعلى غير المتعلّمين، وعلى ذوي الدخل المحدود، كما حقّقَ الحزب تحسّناً كبيراً في استقطاب قطاعات كانت في السابق مضمونة ديموقراطيّاً، مثل السُّود البِيض واللاتينيّين البِيض، وطلّاب الجامعات والعمّال والكاثوليك. هناك أسباب متشعّبة ومتعدّدة لعودة ترامب، لكنّ السياسة الخارجيّة ليست منها. نبالغ في العالم العربي في تأثير السياسة الخارجيّة على الانتخابات في أميركا فيما هي (حسب استطلاع الخروج في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة) لم تحُزْ إلّا على ٤٪ من اهتمامات الناس الذين عدّوها مُقرِّرة لسلوكهم الاقتراعي.
إنّ فَهْمَ ما جرى يأخذنا إلى عام ١٩٩٢ عندما ترشّح الصحافي، بات بوكانان، للرئاسة وألقى خطبة شهيرة في مؤتمر الحزب الجمهوري عن «الحرب الثقافيّة». الحرب الثقافيّة هي العنوان الأبرز لهذه الانتخابات الرئاسيّة، وهي فاعلة أيضاً في الانتخابات المحليّة. عندما سجَّلت الساحة السياسيّة في لبنان قبل «طوفان الأقصى» سِجالاً عنيفاً عن الحرّيات المثليّة شاركت وسائل الإعلام المُموَّلة من حكومات الغرب (الناتو) في المعركة إلى جانب الحرّيات المثليّة.
هذه المشاركة تعطي صورة زائفة عن مواقف دول الغرب من موضوع الحرّيات المثليّة وحقوق المتحوّلين جنسيّاً. يفترِض العربي أنّ كلّ دول الغرب تحمل أجندة التحرّر الشخصي والجنسي (بما فيها حقّ الإجهاض) فيما هذه المواضيع تدخل في قلب الانشطار السياسي والاجتماعي. لم يتبلور أيُّ إجماع على هذه المواضيع في الغرب، لا بل إنّ الصراع والخلاف بين اليمين واليسار يدور حول هذه المواضيع بذاتها. الأجندة اللّيبراليّة الغربيّة فعّالة في الإعلام وفي الإعلام المُموَّل من دول الغرب في بلادنا (ما تسمّيه وزارة الخارجيّة الأميركيّة وسائل الإعلام «المستقّلة» أي تلك التي تتلقّى تمويلاً من حكومات الأطلسي ومن مؤسّسة سوروس، مثل «درج» و«ميغا فون» و«رصيف» وغيرها) لكنّها لا تمثّل كلّ الرأي العام الغربي، بل قسماً غير أكثري فيه.
الانقسام حول هذه المواضيع يزداد عمقاً، وقدرة ترامب على اجتذاب السود (الذكور) واللّاتينيّين مرتبط بالقيم الاجتماعية والأخلاقيّة والدينيّة المحافظة عند السُّود واللّاتينيّين والكاثوليك. هناك رفْض من قِبل الملايين هنا لمنح حقوق للمثليّين، والكثير ينطلق في هذا الرفض من منطلق مسيحيّ محافظ. وضمّ موضوع المتحوّلين جنسيّاً إلى الأجندة اللّيبراليّة زاد من نفور الملايين هنا من الأجندة اللّيبراليّة الاجتماعيّة التي يمثّلها الحزب الديموقراطي. وحتى موضوع حقّ الإجهاض الذي ظنّ الحزب الديموقراطي أنّه سيكون عنصر الفوز الأساسي لكامالا هاريس، لم ينجح أبداً في كَسْب تأييد النساء البِيض. أكثريّة النساء البيض صوّتت لترامب في هذه الانتخابات رغم المواقف والممارسات الذكوريّة للرجل.
الموضوع الثقافي مرتبط أيضاً بمواضيع سياسات عامّة أخرى مثل التعليم والإنفاق العام وحتى الرياضة. لم يدرك الحزب الديموقراطي المرتبط بسياسات «الصوابيّة السياسيّة» ومصطلحاتها أنّ موضوع التحوّل الجنسي وممارسة المتحوّل الرياضة مع الجنس الذي لم يولد فيه سيثير نقمةَ كثيرين. وهذا الصراع الثقافي معتمِل أيضاً في المجتمعات الأوروبيّة التي تشهد صعوداً لليمين واليمين المتطرِّف. وحتى ما كان يُسمّى بأحزاب اليسار، فإنّها باتت تقترب رويداً رويداً نحو اليمين؛ لأنّ المروحة السياسيّة انتقلت على مرّ السنوات نحو اليمين. لم يعُد حزب الخضر الألماني على يساريّة تأسيسه.
وترامب يمثّل التحدّي الأبرز ضدّ الصوابيّة السياسيّة. حتّى خطابه المبتذَل والسُّوقي والذكوري يُثير إعجاب الكثيرين من البِيض ومِن غيرهم الذين يعارضون برامج الصوابيّة السياسيّة. والتعليم في أميركا بات يتّجه نحو التعليم المنزلي ونحو المدارس غير الرسميّة التي لا يرى كثيرون أنّها متأثّرة بالبرامج اللّيبراليّة النابعة من الهيئات اللّيبراليّة المتنفّذة في الحكومة الليبراليّة. ويرتبط موضوع الصراع الثقافي بموضوع الجريمة والنظرة إلى الشرطة.
النظرة اللّيبراليّة إلى الشرطة تدعو إلى الحدّ مِن صلاحيّتها من أجل أخْذ حقوق المتّهمين، وحتى حقوق المُدانين، في الحسبان. هذه النظرة تتعارض جذريّاً مع نظرة دُعاة «القانون والنظام» الذين يدعمون حقوق الشرطة ولا يعترضون على مشاهد العنف المُفرط الذي تمارسه أجهزة الشرطة في معظم الولايات، وبصورة تنمّ عن كراهية عِرقيّة (لأنّ معظم الضحايا من الملوّنين). وثارت ثائرة المحافظين على الحزب الديموقراطي عندما رفع بعض اللّيبراليّين شعار تخفيض تمويل الشرطة. حتى كامالا هاريس اضطرّت إلى النأي بنفسها وحمْلتها عن هذه النظرة، وذكّرت بقسوتها عندما كانت وزيرةَ عدلِ ولاية كاليفورنيا.
العامل الثاني، هو الثورة الجمهوريّة ضدّ الدولة العميقة. يرتبط مصطلح «الدولة العميقة» بتركيا في حقبة التسعينيّات، لكنّه يسري على الكثير من الدول التي تؤدّي فيها أجهزة الأمن والاستخبارات والقوّات المسلّحة دوراً خارج النظام السياسي الظاهر (أو المُعلن). حتى في أميركا في الخمسينيّات، برز مصطلح «الدولة المزدوجة» في إشارة إلى عدم قدرة الجهاز المدني المُنتخب على السيطرة على أجهزة الاستخبارات والقطاع العسكري. الدولة العميقة في أميركا تعمل عبر وسائل الإعلام التقليديّة، وهي التي كانت تسرّب أسراراً وتسجيلات تضرّ بمصلحة ترامب حتى خلال تولّيه منصب الرئاسة. «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» هي أبواق الدولة العميقة.
الدولة العميقة تريد استمرار الحروب المستمرّة ولا تقبل بانكفاء أميركا عن العالم أجمع لِما يشكّله ذلك من ضرر على استمراريّة الإمبراطوريّة الأميركيّة (مع أنّ هذه الحروب هي التي ستؤدّي بالنهاية إلى أُفول هذه الإمبراطوريّة، والمسار بدأ بعد حروب الانتقام من 11 أيلول). تعرُض الصحف التقليدية الليبراليّة مواقف الدولة العميقة ومصلحتها مقابل الحصول على كمٍّ هائل من الأسرار والأخبار التي تُفيد مصلحتها.
إنّ فشل ترامب في السيطرة على أجهزة الأمن والاستخبارات العسكريّة تفسّر التعيينات الأخيرة له في مجال السياسة الخارجيّة والاستخبارات. هو لا يقوم بتعيين مخضرمين في هذا المجال لأنّه لا يثق بحُكمهم. الدولة العميقة عارضت بقوّة قرار ترامب الانسحاب من أفغانستان، وهي التي رأت في شخصه خطراً على المصالح الإستراتيجيّة للدولة العميقة، أو دولة الأمن القومي. إنّ رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق، مارك ميلي، اعترف أنّه تحادث مع رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، في شأن رَفْض أوامر ترامب بعد الانتخابات الرئاسيّة في ٢٠٢٠.
هذا الاعتراف خرقٌ للدستور ومخالَفة لقَسم الجنرال المذكور. هذه المحادثة هي دليل إضافي على قوّة الدولة العميقة التي تستطيع أن تخالف مشيئة «القائد العام» للقوات المسلّحة الأميركيّة. الحزب الجمهوري يرى أنّ الدولة العميقة تمنع الرئيس الجمهوري، ترامب، من تنفيذ وعوده بشأن وقف الحروب المتكرّرة والمنتشرة. ليس من المعلوم إذا كان ترامب سينجح ضدّ الدولة العميقة هذه المرّة، لكنّه يعود للرئاسة بنفوذ وسلطة أكبر بكثير من المرّة الماضية بسبب نسبة فوزه واتساعه.
العامل الثالث، أنّ قاعدة الحزب الجمهوري لم تثق بالنظام القضائي الذي كال الاتهامات والتحقيقات ضدّ ترامب. كان هناك عُرف أميركي قديم بالتمنّع عن الملاحقة القضائيّة ضدّ الرؤساء السابقين. القضاء في أميركا مُسيَّس، أكثر ممّا هو في الكثير من الدول الغربيّة. وبعض القضاة ومدراء الشرطة يخوضون انتخابات لنَيل مناصبهم، ما يُضفي انحيازاً على عمل القضاء (وحده القاضي بيطار غير مسيّس، ربّما لأنّ السفارات الغربيّة شديدة الحرص على حياده). المحافظون رغبوا في تحدّي القضاء الذي يرَونه منحازاً ضدّهم.
العامل الرابع، يتعلّق بنخبويّة الحزب الديموقراطي وقاعدته. في الأسبوع الأخير من المعركة الرئاسيّة نطق جو بايدن بعبارة «القاذورات» في إشارة إلى أنصار ترامب. هو وصف ملايين الأميركيّين بالقاذورات. وفي معركة ٢٠١٦ وصفت هيلاري كلينتون أنصار ترامب بـ«البائسين». النظرة هذه هي نتيجة الطبيعة الديموغرافيّة التعليميّة لأنصار الحزب الديموقراطي. ينزع الأكثر تعلّماً نحو الحزب الديموقراطي، فيما ينزع الأميركيّون الذين يحملون شهادة ثانوية فقط نحو الحزب الجمهوري، خصوصاً في زمن ترامب. هذا الانشطار التعليمي يُرسِّخ نظرة نخبويّة عند الديموقراطيّين ويجعل من أنصار ترامب جهلاء وأغبياء في نظرهم. وكلّما أهان الديموقراطيّون أنصار ترامب، ازداد تعلّق هؤلاء بالرجل الذي - رغم ثرائه الفاحش - استطاع أنْ يكسب ثقة الأفقر والأقلّ تعليماً.
العامل الخامس، يتعلّق بثورة العِرق الأبيض في أميركا بوجه السُّود (تماماً كما ثورة البِيض في أوروبا ضدّ المهاجرين العرب والمسلمين). هؤلاء يرَون أنّ البلاد لهم فقط وأنّ الملوّنين متطفّلون، وهم يساوون بينهم وبين الفقراء المستفيدين من نظام الرعاية الاجتماعية، ما يجعل المستفيدين متطفّلين بنظر البِيض (معظم الذين يستفيدون من نظام الرعاية الاجتماعية هم من البِيض وليس السُّود. وفي دراسة لـ«أربين انستيتوت» يتبيّن أنّ معظم المستفيدين هم من البِيض (٤٣٪) ثم اللّاتينيّين (٢٣٪) ويليهم السُّود وغيرهم). والتمرّد العِرقي الأبيض يجد ملاذه في نظريّة «الاستبدال الكبير» (وهي سائدة في أوروبا أيضاً) والتي ترى أنّ البِيض يتعرّضون لهجمة استبدال معيشي من قبل الملوّنين (أو المسلمين في أوروبا). ويعبّر هؤلاء عن هوس بتدنّي نسب الخصوبة عند البِيض (صاحب شركة تسلا، إيلون ماسك، من أصحاب هذه النظريّة، وإنْ بلهجة مبطّنة).
ترامب لم يخلق ظاهرة في أميركا، بل هو نتاج لظاهرة تعتمِل في صدور البِيض منذ صعود رونالد ريغان. ريغان معتدل بالمقارنة، والبِيض يبحثون عن حلول أكثر تطرّفاً، ويريدون إغلاق الحدود التي تزيد من التلوين الديموغرافي الذي يقضّ مضاجعهم. الغرب برمّته يشهد تغييرات سياسيّة هائلة، والدولة اللّيبراليّة التي تلت الحرب العالميّة الثانية باتت مرفوضة؛ لأنّ البِيض أرادوا نظام الرعاية الاجتماعيّة للبِيض فقط. حتى الدول الإسكندنافيّة التي زاوجت بين نسَق من الاشتراكية والديموقراطية الرأسمالية الغربيّة نبذت النمط القديم، وتشهد تلك الدول صعوداً لليمين العنصري المتطرّف. أمام ترامب ولايةٌ لأربع سنوات فقط، لكنّ الظاهرة لن تنتهي بنهاية ولايته.