تدفعنا هذه الموجة من الانقلابات والاغتيالات في افريقيا الي التفكير في "ملك القراصنة" الفرنسي: "بوب دينار". علينا ان نفكر في اغتيال الرئيس التشادي من طرف محمد مهدي علي، مرتزق درس في باريس وانتمى الي الحزب الاشتراكي الفرنسي، يقود مجموعة مسلحة تنشط الان في جنوب ليبيا، وكان قد قاتل الي جانب فرنسا ضد القذافي، ثم تعاون فيما بعد مع حفتر.
بالأمس وقعت محاولة اغتيال لرئيس مدغشقر تورط فيها فرنسييون وهم الان في حالة اعتقال. هناك تشابه كبير بين فترتنا الراهنة وفترة "بوب دينار": في الستينات كانت افريقيا على طريق التحرر من الاستعمار المباشر، وكان الاتحاد السوفياتي يدعم حركات التحرر في العالم، وهو ما انتج صراعا على النفوذ بينه وبين العالم الغربي على اسيا وافريقيا. الان بدأت افريقا محاولة التحرر الاقتصادي والافلات من قبضة فرنسا بصفة خاصة والتعاون مع الصين وروسيا والهند.
قال "ميتيران" ذات مرة "لا مستقبل لفرنسا في القرن الواحد والعشرين بدون افريقيا"، وكان "ديغول"، قبله، قد اطلق يد "فوكار" في افريقيا، فأخضعها بالاغتيالات والانقلابات والدسائس والحروب لسلطة فرنسا. من اخطر قراصنة فرنسا في تلك الفترة ، واكثرها كلبيّة هو "بوب دينار".
انتحل اسماء لا تُحصى: فهو جالبير بورجيو وهنري توماس وسعيد مصطفى وموجانجا وروبير دينار. يبدو ان اسمه الحقيقي هو جيلبير بورجيو، ولد في بوردو سنة 1929 يُعُرّفُ نفسه فيقول "انا قرصان الجمهورية''، وبالفعل كانت مهمته هو ان "يتدخل" اذا وصل للسلطة في افريقيا شخص ليس مخلصا لفرنسا.
بدأت رحلته في فيتنام حيث شارك في الحرب مع الجيش الفرنسي، هناك تزوج فياتنامية انجب منها طفلا مات قبل ان يراه، ثم تحول الي المغرب حيث عمل في جهاز الامن ايام الحماية الفرنسية. في فترة الستينات، وخلال حركة الاستقلال التي عرفتها القارة الافريقية، اصبح بوب دينار احد اذرع الاستخبارات الفرنسية.
في 1960 تحوّل الي "كاتنقا" في الكونجو البلجيكي ليعمل مع "مويز ستونبي"، وهو رجل اعمال كونجولي اعلن نفسه رئيسا لولاية "كاتانجا". اعجب "تسونبي " بدينار وعهد اليه بقيادة "جيشه" الجديد: اصبح لبوب دينار جيش ومال وجواز سفر ديبلوماسي..ودعم سري من المخابرات الفرنسية. شارك دينار في الحرب ضد باتريس لومبا وهو احد الذي ساهموا في قتله.
بعدها انتقل الي اليمن عندما اندلع فيه الصراع بين الجمهوريين بمساعدة عبد الناصر والنظام القديم (الامامة) الذي تدعمه السعودية. درّب دينار القوات الموالية للنظام القديم بمساعدة الاستخبارات الفرنسية. بعد اليمن انتقل دينار الي جزر القمر: استطاع دينار بمساعدة فرنسا ايصال " احمد عبد الله عبد الرحمان" الي السلطة، الا ان هذا الاخير رفض لاحقا انضمام جزيرة "مايوت" الي فرنسا، فقام بوب دينار بالانقلاب عليه ووضعه في السجن وتنصيب "علي صويلح". في جزر القمر قام دينار بإبادة قرية بكاملها لأنها لم تتعاون معه وناصرت احمد عبد الله، وعن ذلك يقول دينار "لست نادما، لقد قمنا بالشيئ الصواب". ثم سرعان ما ساءت العلاقة بين "علي صويلح" وفرنسا فقام دينار بالانقلاب عليه واعادة "احمد عبد الله" بعد ان اصبح لا يمانع من بقاء "مايوت" ضمن السيادة الفرنسية.
شكّل دينار "الحرس الجمهوري" القمري وكان يأتمر بأوامره هو لا بأوامر الرئيس "احمد عبد الله"، وكان الرؤساء يزورون جزر القمر ولا يلتقون بالرئيس وانما بدينار. عندما امر "احمد عبد الله" بحل الحرس الجمهوري، جاءه دينار الي القصر وقتله. هكذا نصّب دينار دينار احمد عبد الله مرتين وخلعه مرتين.
عن علاقته بالاستخبارات الفرنسية يقول دينار "لم اكن اقوم باي شيئ دون اعلامهم...ولم اكن اقوم بشئ عندما يكون هناك ضوء احمر". شارك في الحرب في التشاد ضد القذافي، وحاول اغتياله في 1978، قاتل مع الاكراد ضد تركيا وضد العراق.. في البينين وموزنبيق وانجولا ونيجيريا وايران. في 1988 ساعد فرنسا على فك الحصار على النظام العنصري في جنوب افريقيا، وذلك بمنح جوازات سفر كومورية لأعضاء الاستخبارات في النظام العنصري ..تزوج من ثماني نساء وانجب منهن اطفالا، وفي جزر القمور انتحل الاسلام وتدبّر اسما مناسبا "سعيد مصطفى محجوب" ليتزوج من كومورية حسناء.
عندما تبدلت المناخات ولم تعد فرنسا في حاجة لخدماته ارسلت فرقة من الكوموندوس لتنقله من جزر القمر الي باريس، ولتفادي محاكمته ادعت انه اصيب بالزهايمر ولم يعد باستطاعته مخاطبة المحكمة.مات منذ سنوات ومات معه ما كان يطلبه منه ديغول وفوكار وميتران وشيراك واجهزة الاستخبارات. في جزر القمر حاول انشاء "وكالة دولية للمرتزقة" تتدخل في افريقيا حيثما هبّت الرياح بما لا تشتهيه باريس.خلال كل هذه الاحداث كانت فرنسا تحدث العالم عن الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.