وُلدت "مواطنون ضد الانقلاب"، كفكرة اولا، من مُعاينة ومُعاناة عشر سنوات. كنا نلاحظ ونكتب ونتوقّعُ مُسترشدين بالتجربة وبالتاريخ المقارن لتجارب الانتقال الديمقراطيي. قبل الانقلاب بسنوات قليلة كُنّا نكادُ نُجمِع على وجود خلل بِنيوي في الديمقراطية التونسية، وان الكارثة مسألة وقت لا غير.لقد كان ظُهور الحاجة الي "الحوار الوطني" احد القرائن على هذا الخلل البنيوي، وكان اندثار حزب النداء مُؤذِنا بقرب الانقلاب.
هذا الخلل –باختصار مُخِلّ- هو اننا دخلنا تجربة ديمقراطية بدون ديمقراطيين، دخلنا تجربة لا تنجح الا بالتّعايش باحزاب لا تستطيع ان تستمِرّ الا بالصراع. دخلنا فترة لا تنجح الا متى كان التّشكّل السياسي يتِمُّ على قاعدة المهام العملية والبدائل والبرامج،وليس بتشكيلات احتجاجية لم تُجرّب السلطة ابدا وقائمة على المُضاددة الايديولوجية.
من هنا جاءت "مواطنون ضد الانقلاب" بوصفها تجربة مخبرية او مَنبَت لاستيلاد تشكّل سياسي يقوم على قاعدة المشترك المواطني وليس على تنظير سابق للعمل. طيلة تسعة اشهر لم تُشكّل ابدا خلفياتنا الفكرية موضوعا للنقاش، بل غالبا ما كنا نتخذ منها موضوعا للتّندّر.
وُلِدت جبهة الخلاص خلال مسار نضالي مقاوم للانقلاب خاضه جمهور ديمقراطي صُحبة اشخاص بنوا معهم الثقة طيلة عشر سنوات، واصبحت العلاقة بينهما، بعد الانقلاب، علاقة وُجدانية. كان الهدف الاساسي، ولعله الوحيد، لإضراب الجوع هو دفع الطبقة السياسية الرافضة للانقلاب الي توحيد صفوفها في جبهة واحدة من اجل اسقاط الانقلاب واستعادة الديمقراطية. وكان ذلك ايضا هو الهدف الاساسي الذي من اجله دفع جمهورنا الديمقراطي الشهداء والعرق والمال. وعلينا ان نسال: هل هدف جبهة الخلاص هو نفسه هدف مواطنون ضد الانقلاب؟
ان العلاقة بين مواطنون ضد الانقلاب وجبهة الخلاص هي كعلاقة الجزء بالكل، او علاقة الظّرفي بالاستراتيجي. يتحالف مواطنون ضد الانقلاب مع بقية مُكوّنات جبهة الخلاص من اجل اسقاط "هذا" الانقلاب، ولكن على مواطنون ضد الانقلاب البقاء و العمل والاستعداد لإسقاط الانقلابات القادمة، اسقاط امكانية الانقلابات. عليها الانتشار والتوسع وتشكيل هيئات في كل الجهات، وفي الخارج باسم مواطنون ضد الانقلاب لإسناد الجُهد السياسي الظرفي لجبهة الخلاص، ولتحقيق الهدف المُشترك بينها وبين مكونات جبهة الخلاص، ولكن على المَعنِيّين حقّا بتحقيق ديمقراطية مُستدامة ان يغادروا منطق "احييني اليوم واقتلني غدوة"، ويتحلوا بوعي تاريخي يستفيد من تجارب التاريخ وقوانينه. لتوضيح هذا علينا ان نتحدث "سياسة":
-لم يحدث قط، منذ ان تشكّلت الجبهات خلال الحرب العالمية الثانية، ان افلتت جبهة من قوانين الجبهات: الجبهة صيغة تقليدية في النضال الشعبي، تضمن توفير اكبر قدر من التعاون المرحلي بين مكونات متعددة، وتتضمن دوما قيادة مشتركة تمثل كل القوى المتحالفة، دون ان يمس ذلك من الوجود المستقل لكل منظمة. ان الهدف المُشترك الذي يجعل من "اللقاء الجبهوي" ممكنا هو وجود خطر مُشترك، لذلك تقوم الجبهة دائما على تفاهُم غير مُعلن : "نلتقي مؤقتا ونعود كما كُنّا اذا انتصرنا". وللجبهة قوانين اخرى ليس هذا وقت ذكرها. ارجوان يكون هذا واضحا لدى المعنيين حقا بتاسيس ديمقراطية مستقرة، والذين اخذوا درسا مُرّا من عشر سنوات من الصراع الذي ادى الي الانقلاب، ارجو ان يكون هذا واضحا لدى من كابدوا تسعة اشهر ودفعوا شهداء من اجل استرجاع الديمقراطية.
- لكي "لا نعود كما كنّا"، ولكي لا نعود الي الصراع الدائم حين يزول الخطر المؤقت والمشترك، ولكي لا يُفاجئنا انقلاب اخر فنلتفِتُ فلا نجد جسما مواطنيا يقاومه ويسقطه، علينا مواصلة تأسيس هيئات مواطنون ضد الانقلاب، يشكلها افراد اتّعظوا من محنة الانقلاب، و آمنوا بالمشروع الوطني الجامع، والتقوا، رغم اختلافاتهم على التعايش.
- لكي نضمن سقفا عاليا لجبهة الخلاص، وندعمها ضد الضغوطات الممكنة او الانحرافات، لابد من قوة مواطنية وديمقراطية ضاغطة تتكلم بصوت عالِ اذا زلّت الاقدام.
-لكي نساعد الاحزاب على القيام" بطقس العبور" من التشكّل الهووي والايديولوجي الي التّشكل المواطني ، فتحتوي المُختلف في لقاء يقوم على البرنامج ، لابد من البداية من الاسفل: بذر المُختلف/المُؤتلف في الارض. مواطنون ضد الانقلاب هي الخلية التي عليها ميلاد الحزب الوطني الجامع.
-لكي نستوعب آلاف الطاقات التي هجرت الاحزاب، من كوادر ومثقفين وكُتاب وخبراء، لابد من مشروع نهوض يستوعب كل الذين يؤمنون بالديمقراطية كخيار استراتيجي رغم اختلافاهم، وهذا لا يكون ممكنا الا بحاضنة تقوم اساسا على ادارة الاختلاف ويلتقي اصاحبها على مشروع.لكي نستوعب هؤلاء لابد من حاضنة لا تنكِثُ غزلها كلّما إنفضّت جبهة.
-لكي نضمن ان لا تتحوّل السياسة الي تسويات على حساب البُسطاء والفقراء، لابد من بوصلة تُشير الي مصالح الناس وشغلهم وصحتهم ونقلهم وحرياتهم .
ان مقاومة الانقلابات والانحرافات امر لا يستطيع ان ينهض به فصيل سياسي واحد، ولا يكون ممكنا الا اذا قاوم الجسم السياسي الديمقراطي على اختلاف الوانه، ولا احد يضمن من ان لا يحدث انقلاب اخر يكون اكثر خبثا وذكاء من هذا فيسترضي الكثير لينفرد بواحد، ثم يلتهِم الثاني، واذا نجح في ذلك يكون قد فات الاوان لاسترداد الديمقراطية، وهذا امر قد عشناه وما هو بالحديث المُرَجّم، وعلينا ان نتحوّط لغوائل الدهر.
وسوف تصاحبنا الانقلابات لخمسين سنة اخرى وعلينا المحافظة على التّرياق المضاد لها ونُقوّيه. قال مرة كلود لفي شتراوس "وحده الانسان الذي يستعمل الادوات"، فقيل له "ولكن القرد يستعمل العصا لإسقاط الموز"، فقال "ولكنه يرميها في كل مرة، فلا يجدها من الغد اذا احتاجها، بينما يحافظ عليها الانسان لأنه الوحيد الذي لديه وعي بالمستقبل". على الذين قاوموا الثورة المضادة طيلة عشر سنوات بأقلامهم والسنتهم ، ونقدوا المسار من اجل اصلاحه لا من اجل هدمه، وعلى الذين قاوموا الانقلاب بأجسادهم طيلة عشرة اشهر، ان يستعدوا لأمرين حاسمين: المعركة الفاصلة بين الحلف الانقلابي والديمقراطيين، ومعركة التأسيس لديمقراطية مُستدامة خالية من الانتهازيين والموتورين، وذات مضمون اجتماعي وسيادي.