ليس في تونس صراع ديني شبيه بالصراع بين المسلمين والمسيحيين، وليس فيها صراع مذهبي شبيه بالصراع بين الشيعة والسنة، وليس بها صراع قبلي كالذي حدث بين التوتسي والهوتو. فيها صراع من نوع اخر، انه الصراع الايديولوجي بين الاسلاميين، والقوميين، واليساريين، والدستوريين. نشأت جميع هته "الطوائف" في ظل دول تسلّطية فورثت منطقها واسلوبها وثقافتها.
من شروط نجاح اية تجربة ديمقراطية هو اشتراك القوى السياسية المتنافسة في ثقافة الديمقراطية، وان هذا ما ينقص القوى السياسية التونسية المتصارعة منذ 2011. لقد داهمتهم الممارسة الديمقراطية وهم لا يزالون متمسكين بثقافة الحركات الطلائعية والانقلابية في ستينات القرن الماضي. ان الهزائم المتلاحقة التي مُني بها اليساريون والقوميون والدستوريون في ثلاث محطات انتخابية جعلتهم يعودون بسرعة الي منطق الضباط العرب في الستينات. تنتهي السياسة عند هؤلاء، في نهاية التحليل، الي ممارسة للقوة، لانهم يفهمون الحُكم على انه "فتح"، ويؤسسون الشرعية على "العنف الثوري"، وتقوم الايديولوجيا التي يبررون بها اسلوبهم في ممارسة السياسة على ادعاء الحق "الحصري" في قيادة الشعب، وعلى احتكار الوطنية والتقدمية.
ان المجتمع، عند التيارات الثلاثة، موضوع للتغيير وليس اداة للتغيير، وهذه فكرة كانت ملائمة ل"ابستيمية" الخمسينات والستينات من القرن الماضي، الا انها اصبحت عائقا وعقبة كأداء في القرن الواحد والعشرين. لقد نشأ وفكر وتحرك ثلاثتهم داخل ثقافة يعقوبية (نسبة لليعاقبة)، مفادها ان الشعوب جاهلة وعاجزة وانه لا بد لها من نخبة طلائعية تقودها الي الخلاص. وكل فريق له تصور ومميزات لهذه النخبة،تصور يلائم طبيعة المجتمع الذي يريد انشاءه. ومن هنا جاءت كل الطواعين والامراض: الاستعلاء عن الجماهير والتشكيك في الديمقراطية كطريق للتغير، نظرا لان الشعوب لا تعرف مصلحتها، وكذلك صراع النخب فيما بينها، والاستقواء بالأنظمة القديمة او بالأنظمة المعادية للثورة وللديمقراطية، وحتى الاستعانة بالفساد .
هذه هي المعضلة التي واجهت الديمقراطية التونسية: صراع عدمي بين احزاب ايديولوجية حول قضايا لا علاقة لها بقضايا المواطن العادي الذي يبحث عن الشغل والدواء والنقل والحق في بيئة سليمة. لقد اصبحنا نتوقع بعد كل انتخابات ان يُعطّل الخاسرون مجلس النواب لمنع تشكيل الحكومات، واذا وقع تشكيلها اصبحنا نتوقع ان يقوموا بتعطيلها، حتى يقوموا ب"حوار وطني" يعيد توزيع السلطة بشكل مناقض تماما لنتائج الانتخابات. ب"الحوار الوطني" يخسر الرابحون ويربح الخاسرون. هذه الطوائف في سعيها لإسقاط بعضها بعضا قامت باسقاط البلاد على الجميع.
في تونس هناك صراع بين شكلين من التأسيس للسلطة: شكل بدائي يؤسس الشرعية على "الكاريزما" وعلى فكرة "القائد المنقذ" و"الطليعة الثورية"، وشكل معاصر يؤسس الشرعية على فكرة العقد الاجتماعي. لا تؤمن "الطليعة الثورية" بالمساواة بين الافراد في المجتمع لانها تُقسّمه الي اخيار واشرار، او وطنيين وخونة، او تقدميين ورجعيين.
تدعي الطليعة الثورية امتلاك مفهوم الخير والحق وتريد فرضه بقوة الدولة على المجتمع، وهي بذلك تطمح الي خلق مجتمع يقوم على الهوية الواحدة وعلى الانسجام وعدم الاختلاف. هكذا تنتهي هذه الطليعة الي التطابق-دون وعي- مع الحركات الدينية التي تتصور المجتمع على انه جماعة، والي اعتبار المُختلف "مُنشق" وخطير، وهو ما يُفسّر خطابها القائم على ثنائية "النحن" و"الهم".
يدّعي هؤلاء ان التاريخ قد اوكل لهم مهمة تمدين المجتمع وتهذيبه حضاريا واخراجه من البربرية الي درجة التقدم، والوسيلة في ذلك هو السيطرة على الدولة واستعمال اجهزتها البروقراطية. في "الحداثة والهولوكست" يوضح لنا زيغمونت باومان النتائج الحتمية لهذا المنطق التسلطي: فرض الهوية الواحدة بواسطة مؤسسات الدولة، تفويض ممارسة العنف للاجهزة الامنية، وسلب الضحايا لانسانيتهم بواسطة خطاب ايديولوجي تتولى نشره مؤسسات التربية والاعلام والثقافة.
ولسنا في حاجة لذكر الفظاعات التي انتجها هذا الفكر الفاشي الذي يتخفى وراء مفاهيم الحداثة والكونية والتقدم.
عوض هذا التفكير الخطير الذي يدفع نحو الصراع ويتغذى على خطاب ثأري يقوم على التقسيم والاقصاء، تتأسس "المبادرة الديمقراطية" في تونس على خطاب يقوم على التجاوز والتأليف بين المختلفين والبحث عن التقاطعات التي تشكل المشترك المواطني. لقد تخلى الافراد المؤسسون للمبادرة الديمقراطية عن سرديات الستينات الكبرى التي تُريد اخراج الشر نهائيا من العالم، وبحثوا عن مشتركات مواطنية يمكن ان تكون اسسا لعقد اجتماعي جديد. كيف يمكن تجاوز الصراع وتأسيس عقد اجتماعي يقوم على المشترك ويؤسس لديمقراطية مستقرة؟
يعترف "جون راولس" في "الليبرالية السياسية" بان الثقافة السياسية داخل كل مجتمع ديمقراطي تتميّز بتعدد النظريات وتعارضها، سواء كانت نظريات دينية او فلسفية او اخلاقية. ان هذه النظريات هي نتاج حتمي لنشاط الملكات العقلية للإنسان. بخلاف المنطق "الثوري" الذي تتبناه الحركات الطلائعية والذي يقوم على القضاء على الاختلاف بواسطة فرض نموذج للمجتمع بواسطة القهر، فان الفلسفة السياسية تعترف بالاختلاف وتبحث داخله عن مشتركات تكون اسسا لقواعد لعبة تحسم الصراع لا عن طريق القوة، ولكن داخل صناديق الاقتراع. ان هدف العقل دوما هو تحييد الصراع وتجنب والحرب وتحقيق السلم. كيف يمكن ان نؤسس، وبشكل مستديم، مُجتمعا حرا وعادلا يتعايش فيه مواطنون احرارا ومتساوون رغم اختلافاتهم الفكرية والسياسية؟ ذلك هو السؤال المركزي الذي تريد المبادرة الديمقراطية في تونس ان تجيب عنه.
بعكس الكوني الذي يحمل دوما توقيعا خصوصيا، بمعنى انه نتاج ثقافة ما وقع فرضه بواسطة الهيمنة على الثقافات الضعيفة، فان المُشترك يتميز بالمحايثة والواقعية. انه يوجد في "الحس المشترك". ان الحقيقة لا توجد في عالم المثل وانما هي نتيجة تواصل بين البشر، وهذا يعني انها ، شانها شان اللغة، ناتجة عن التواضع. ولقد نبهنا لوديونغ فتغنشتاين الي ذلك "هل تقول بان الاتفاق بين البشر هو مايحدد الحق والباطل؟" يُجيب " ان ما يقوله الافراد هو الحق والباطل، وانه داخل اللغة يتم الاتفاق بين الافراد. هذا الاتفاق ليس حول الاراء وانما هو اتفاق حول شكل الحياة".
ان تأسيس الحقيقة على اللغة يسلبها اساسها المتعالي ويمنع اية محاولة "طلائعية" لفرض نموذج "صالح" على المجتمع. في "وضعية الانسان المعاصر" تجتهد حنا ارنت في بيان التكامل بين المُشترك والاختلاف والتعدد : لا نستطيع ان نتواصل ، ولا نستطيع ان نعبر عن حاجاتنا ورغباتنا للاخر، اذا لم نتقاسم شكلا من الحياة المشتركة، وفي نفس الوقت لا نستطيع ان نكون في حاجة للتواصل اذا لم نكن ذواتا متعددة ومختلفة. اننا دوما وحدة متعددة.
تقوم فلسفة "المبادرة الديمقراطية" على مفهوم الاعتراف بوصفه تجاوزا لثقافة الانكار والاحتقار والاقصاء. انه اعتراف بحق كل الافراد في الوجود المادي والمعنوي، وبحقهم في الاختلاف والتّفرّد والتميّز، كما هو اعتراف بحق الجميع في العدالة التوزيعية للخيرات المادية، وفي العدالة الرمزية والاخلاقية.
ان العدالة والحق والحريات لا يجب فهمها بشكل مجرد وفرضها على الفرد بوصفه مفهوما عقليا منعزلا عن سياقه التاريخي والاجتماعي. لتجاوز الصراع علينا ان نعترف بالاختلاف و نستفيد مما يسميه ميكاييل فاليزار "العدالة المركّبة": هناك عدالة سياسية، واخرى اقتصادية، وعدالة اخلاقية تتمثل في حق الافراد في اختيار الايتيقا الخاصة التي يوجهون بها حياتهم وتجعلهم يشعرون بالسعادة.
وعلينا ان لا نخلط بين مفهوم الاعتراف ومفهوم التسامح: يقوم التسامح على ايحاءات مُضمرة تقوم على التراتبية والهيمنة، لأنه يعني الترخيص المؤقت والمِنّة. ترخيص القوى للضعيف، واعتبار الاغلبي ان الاقلّي على خطئ، ولكن سنتكرّمُ عليه بالتظاهر باننا لم نره. ان مفهوم الاعتراف يقوم على مفهوم الاحترام. احترام الذات الاخرى والاعتراف في حقها الكامل في الاختلاف.
ماهي اذا القيم الموجودة في شكل الحياة المشتركة للتونسيين وكذلك القيم التي سعت الثورة الي تحقيقها، والتي على الجميع احترامها وعدم السعي الي فرض اخرى على المجتمع بواسطة القوة؟ انها حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، انها التعايش وعدم الاقصاء، انها قيمة السيادة والاستقلال والانتماء الي فضاءنا الجغرافي والثقافي. انها قيمة العدالة بين الافراد وبين الجهات في الضرائب وتوزيع الثروة.
انها قيمة احترام القانون والتسليم بنتائج الانتخابات والتداول السلمي على السلطة، انها قيمة الاعتراف بحق الاخر في اختيار طريقة عيشه . يمكن ان تشكل هذه القيم المشتركة ما يسميه جون راولس "التوافق التقاطعي" بين التوجهات الفكرية والسياسية المختلفة. ان هذا التوافق يعني اننا نقبل جميعا هذه القيم مع حق الاختلاف في تصور برامج سياسية متعددة لتحقيق هذه القيم.
انه على القوى السياسية ان تتنافس حول سُبل تحقيق هذه القيم ومزيد تدعيمها، وليس ان تتصارع من اجل الغاءها او فرض اخرى بواسطة القوة. على كل حزب اقناع المواطنين بواسطة الحوار والحجة بوجاهة برنامجه، ثم يذهب الجميع الي صناديق الاقتراع لتحكيم الشعب. بهذه الطريقة يتحسن آداء الاحزاب وتتدعم الديمقراطية ويحصل التراكم ونضمن التعايش والاستقرار السياسي.
Epistémé
Jacobinism
مُنشقّ dissident
Zygmunt Bauman « Modernity and the Holocaust »
Jhon Rawls » Political Liberalism »
المُحايثة inherence
Common meaning الحس المشترك
فيتغانشتاين Ludwig Wittgenstein
Hannah Arendt « the Human condition »
Michael walzer « spheres of justice »