للطوفان علاقة سريّة ومُتشعّبة بالعار، سنحاول ضبط معانيها ومستوياتها متوسّلين بخيط من الاسئلة: ما لذي يجعل مجموعة من البشر تقاتل داخل جحيم كالذي نراه طيلة اشهر ؟ ما لذي يجعل مجموعة بشرية تلتفُّ حول مقاومتها و تتحمّل محرقة وابادة ولا تستسلم لعدوها ؟ ما لذي يجعل طلبة ميسورين في جامعة مرموقة في بلاد بعيدة يتضامنون مع ضحايا الابادة في غزة بينما ينام الكائن العربي قرير العين على بعد كلومترات من المحرقة؟ الاجابة التي سنقترحها في هذه السطور هي التالية : انه الشعور بالعار لدى ذات تحترم نفسها فتشعر بالإهانة فتقوم. هناك علاقة بين القيام ضد الاهانة وفعل المقاومة.
العار في لسان العرب كل ما تلزم عنه سُبّة وشتميه، وهو من فعل عَار الشيئ أي اصابه بعُوّار أي عيب. بيدأ ابن منظور مادة "عور" ب "العورُ" ويطيل الوقوف على العور والعوران. فالإنسان الاعور من بعينه عُوّار وهو ما يسيل دمعه ويجعله يخفي عينه خجلا. قالت الخنساء" قذى بعينك ام بالعين عُوّارُ". عين بها عُوار هي عين الدموع والاختفاء. والعار هو ما يجعل المرء يحذر الظهور خوف الشتيمة. لنقل في كلمة: ان العار هو ما يضرب تقدير النفس لذاتها، ولو قلبنا القول لقلنا: ان من لا يشعر بالعار هو من لا يقدر ذاته.
ان الجيل الذي يصارع الان داخل محرقة النار والدمار هو الجيل الذي بلغ لديه الشعور بالعار من الاستعمار مبغا اورده الموت هربا من الاهانة التي يمثلها الاحتلال. هذا لا يكون لدى جيل بلغ به ايضا تقديره لنفسه مبلغا جعله يختار الموت الشريف على مجرد البقاء الذليل. في غزة يتصادم تقدير حاد للذات بالة قتل فتّاكة. تقدير الذات هو ما يجعل المرء "يقوم" في وجه القوة التي تهينه، يقوم أي يظهر ولا يتخفّى، يواجه ويرفض ويقاوم ولا يذرف الدموع. بذاته عُوّار ويريد ان يداويها. هو يعي بالعار ويريد غسله بدمائه، ويفضل الموت على بقائه في حالة العار. قد يقول قائل بان مفهوم "احترام الذات" او "الانهمام بالذات" هي فكرة مسيحية نجدها لدى ديكارت او فوكو ولا نظير لها في الثقافة العربية، وهذا غير صحيح: ابن باجة في " تدبير المتوحد" وبعد ان يُقر بان الخوف من الموت "فعل بهيمي" فانه ينصح صاحب العنصر "الانساني" من البشر باختيار الموت ان كان في البقاء مّذلّة، ويصف من يقبل البقاء في هذه الحالة على انه " البهيمة خير منه".
ان الشعور بالعار هو ايضا ما يدفع طلبة كولمبيا الي رفض التواطؤ مع الابادة والقيام في وجه "السيستام" الذي تسيطر عليه الصهيونية وتوظفه لخدمتها. هذا الموقف يستند ايضا الي تقدير شديد للذات. حتى ترفض وتقاوم وتشعر بالإهانة عليك اولا ان تكون ذاتا. بلغة كانط: تقدير الذات هو شرط امكان المقاومة والرفض. يُعرف ديكارت تقدير الذات تعريفا طريفا فيقول " هو اثر الكرم، او عظمة النفس، يميز الانسان الشريف". واذا كان الكرم هو المنح والاعطاء وعدم الامتناع في اغاثة الاخر الذي يعيش خصاصة، فان "الاخر" الذي يناصر غزة هو "انساني" ابن باجة الذي يورد نفسه الموت هربا من عار ابادة الاخر امام عينيه. ان من يقولون " نشعر بالعجز ازاء الابادة" ولا يقومون بشئ، هم عين بها عُوّار وتبكي، اما من قام ضد الابادة فهو قد شعر بالعار ازاء موقف العجز فنهض رفضا للعار وتقديرا للذات.
في العار اذن مفارقة: فمن جهة هو احساس سلبي يجب تفاديه والتخلص منه لما فيه من امتهان للذات، وهو احد منابع الحزن والمعاناة، ولكنه ايضا نوع حاد من الغضب يدفع الي المقاومة والتحرر. لا عصيان بدون شعور بالعار، ولا مقاومة بدون تقدير للذات، ولا تحرر بدون ان تكون ذاتا. وعلى الذين يرضون بالاستعمار والاستبداد والانقلابات، وان تُكتب لهم دساتيرا وهم نيام ان يُنزلوا انفسهم منازلها. اما المقاوم فهو قائم، أي منتصب القامة وغير منحن، وهو ايضا " قوّام على.." على غيره من لا يقدر على القيام والمواجهة.
فالمقاومة في غزة "قوامة على امة" عجزت عن المواجهة. هم قوّامون علينا بما انفقوا من دمائهم. وعلينا ان نكف عن التقسيم الجندري: رجال/نساء، ذكور/اناث، ونرسخ التقسيم الانساني : مقاوم/عاجز. ان نُكران الابادة من طرف حكومات الغرب، وعدم الاكتراث لأعداد الضحايا يعكس تعالي انطولوجي على الاخر/الضحية: نحن الانسان/الذات، والاخر مجرد غيرية/حيوان. لذلك فان الجحيم المستعرة اليوم منذ سبعة اشهر هي نزاع مرير من اجل الاعتراف، أي " لا تملك أي تعالي انطولوجي عليّ، ولنخض صراعا من اجل تبادل الاعتراف". وهناك مشكل عويص، وهذا ما يفسر مرارة الصراع ودوامه واصرار الطرفين: انه صراع صفري، اما منتصر سيكون هو الانسان، او مهزوم سيكون "غير انساني".
ان ثبوت فعل الابادة، وادانة العدل الدولية وانتفاضة الطلبة وانقلاب الراي العام العالمي هو انحدار الغرب الي "اللانساني"، وهذا مكمن الحرج والرعب. لقد قال هوسرل يوما " الانسانية الاوروبية". انها صفة تُفتكُّ وتتحول عبر الصراع. وان الانساني اليوم هو من يقاوم الصهاينة وحلفائهم، ولا يتعلق الامر بأثنية بعينها او بثقافة بعينها. قُم، قاوم، كن قواما، فانت ذات وجدير بالاحترام. وعلى من يعطون ظهورهم للاستعمار والانقلابات والاستبداد ان يحتكموا لابن باجة، سينزلهم منازلهم.