الغنوشي الاول والغنوشي الثاني وحمادي الجبالي وعلي العريض والمهدي جمعة والصيد والشاهد ولا شيئ تغير في واقع الناس. لم يتغير شيىء لأننا صدقنا ان الثورة هي انتخابات ودستور وتداول على الحكم. صدَقنا بان هناك ثورة في العالم يمكن ان يُموَلها صندوق النقد الدولي.
هل حدثت تنمية او نهضة في أي قطر من اصقاع الارض بدعم من صندوق النقد؟ الم يكتب "جوزيف ستيقليتز"، المدير السابق للبنك الدولي ومستشار كلينتون للشؤون الاقتصادية، كتاب "الخيبة الكبرى"، وهو كتاب شكل فضيحة عالمية لأنه قال فيه بان الدوائر المالية العالمية والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي لا يفرضون على العالم النامي إلاَ السياسات الاقتصادية التي ثبت بالتجربة وبالدليل القاطع انها سياسات فاشلة: القروض والهبات والمديونية ورفع الدعم والترفيع في الاسعار.
كيف يمكن ان نتداوى بالتي كانت هي الداء؟ لن يُفلح المهدي جمعة كما لم يفلح الجبالي وعلي العريض، وقبلهم جميعا بن علي ، لأنهم جميعا يتحركون ويَفكرون من داخل نفس المنظومة الاقتصادية.المشكلة الحقيقية هي منوال التنمية السائد حتى الان،والحل هو ابداع منوال تنمية بديل عنه، اي طريقة لإنتاج الثروة اعتمادا على الموارد الذاتية ومراكمتها حتى تخلق مواطن شغل جديدة تراكم بدورها الثروة من اجل خلق مواطن شغل اخرى. ان اي "ثورة" لا تُغيَر منوال التنمية لا تعدو ان تكون "هيصة" او "فزعة" وتتحول في الاخير الي مسخرة وخيبة كبرى.
لماذا لم يُطرح هذا المشكل حتى الان، لا من طرف النخبة السياسية ولا من طرف الاعلام؟
اولا: لان هذا المشروع يعني اعلان تونس العصيان التام تجاه فرنسا والولايات المتحدة،وتخلصها من التبعية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وهو خطر لا يمكن ان تتسامح فيه الدوائر الاستعمارية خشية ان تنجح تونس في ذلك فتقوم الدول الافريقية والآسوية بالنسج على منوالها.
لقد استطاعت البرازيل والأرجنتين والاكواتور والمكسيك وبوليفيا وفنزويلا والشيلي ان تنجح في هذه التجربة،وأصبحت مستقلة سياسيا واقتصادية عن الولايات المتحدة، لذلك اجتهد الاعلام الاوروبي منذ البداية في اقناعنا بان "ثورة الياسمين" تنحصر في الانتخابات وفي كتابة الدستور. هناك مُربع لا يجب ان تتجاوزه تونس: يجب ان تبقى ديمقراطية هشة، لا تموت ولا تحيا: يجب ان تبقى ضعيفة حتى تكون مخبرا لباقي شعوب المنطقة، مخبرا يُجرّب فيه التجويع والتطبيع، القروض مقابل التطبيع، الحماية مقابل التطبيع. لا يجب ان تصل ابدا الي مرحلة التحرر والانعتاق.
ثانيا : لا يمكن ان يطرح الاعلام التونسي مشكل منوال التنمية لانه مرتبط بدوائر مالية محلية واجنبية ليس من مصلحتها تغيير منوال التنمية السائد. كما ان اصحاب القنوات ومٌعدي البرامج والصحفيين هي نخبة افرزتها البيروقراطية والراسمال المحلي للدفاع عن مصالحها.
ثالثا:لا يمكن ان نتوقَع من نداء تونس او حركة النهضة ان تتحدَث عن منوال تنمية بديل عمَا كان سائدا. نلاحظ غيابا تاما لهذه الكلمة "منوال التنمية" في خطاباتهم وفي كتاباتهم، وذلك لان كلاهما حركة يمينية، تفكر من داخل النظام الاقتصادي والمالي العالمي السائد. كلاهما يعتبر ان مشكلة تونس الاقتصادية هي مشكلة تسيير وإدارة وليست مشكلة هيكلية تتعلَق بطبيعة المنوال الاقتصادي . نداء تونس حركة ليبرالية مكونة من نفس الدوائر التي كانت نافذة في زمن بن علي وهي من حدثت الثورة ضدها، اما حركة النهضة فهي حركة اصلاحية وليس لها اي تناول جدي للمسألة الاقتصادية.
الفقرة التي يُعنونها السيد راشد الغنوشي ب "الحقوق الاقتصادية" ضمن "الحريات العامة في الاسلام" لا تتعدى الوعظ والكلام المُرسل من نوع "الملك كله لله والانسان مستخلف فيه" و "يتجه النموذج الاسلامي الي توزيع الثروة على اكبر عدد ممكن على نحو يغدو الجميع مالكين" و "يُندد الاسلام بالترف والسرف والتبذير واكتناز المال واعتبره اساسا للبغي والكفر.." (ص 57/58 ط تونس 2011). اما كيف ننتج الثروة في القرن الواحد والعشرين، وكيف نراكمها وكيف نوزعها فذلك ما لا نجدهُ. ورغم انه يشن هجوما على الديون والقروض والمساعدات من "دول الكفر" ويصفها بانه "مذلة لكل نفس ذاقت طعم الايمان" الا انه لم يقدم اي بديل عنها.
رابعا: ان اية محاولة لبناء منوال تنمية جديد سوف يواجه من العقول المُتكلَسة ومن الاعلام واصحاب المصالح بالكثير من التشكيك والاستهجان، وسوف يوصف بالطوباوي والحالم والغير واقعي والفوضوي، كما ان القوى الاستعمارية سوف تعمل على خنقه في المهد.
لذلك فان هذا المشروع التحرري لا يحتاج فقط قوة ثورية حقيقية وعقول مبدعة وانما يحتاج ايضا وعيا وتضحية وصبرا من قبل الشعب. ان الحالمون والطوباويون هم الذين ينتظرون الشغل "الآن" والكرامة "الآن"، اما المنافقون والكاذبون فهم الذين يعدون الشعب بذلك حالما يُنتخبون.
اما الذين يحملون مشروعا تحرريا حقيقيا فعليهم التفكير في الشروط السياسية الداخلية لتحقيق ذلك، وفي التحالفات الاقليمية الضرورية من اجل نهضة شاملة، وهذا لا يكون، في اعتقادي البسيط، الا بكتلة تاريخية –داخليا- وبتكامل مغاربي.