لعل احد بركات طوفان الاقصى هو انه قام بحل المُعضلة القديمة: ايهما اولى المقاومة ام الديمقراطية؟ ما نراه امام اعيننا يجيب عن السؤال: نُصرة الشعوب الحرة لغزَة وضغطها المتواصل على حكوماتها طيلة اكثر من خمس اشهر، في مقابل خوف وعجز الشارع العربي عن التأثير، حيث لم تخرج مظاهرة واحدة في السعودية والامارات والبحرين، اما في مصر حيث يسكن اكثر من مائة مليون نسمة فقد خرجت مظاهرة واحدة بطلب من العسكر. لقد اتضحت الحقيقة التالية: ان تأجيل مطلب الديمقراطية بتعلّات استشراقية من قبيل "العرب لا يناسبهم الا الاستبداد الشرقي"، او ان مطلب الديمقراطية مؤامرة ضد انظمة الحكم العربية "لتفتيت المُفتت" واضعاف قدرة هده الانظمة على مواجهة "اسرائيل"، لقد تبيّن خلال هده المحنة ان هده الآراء والشعارات ماهي الا حيل وأكاذيب لاستدامة عمر انظمة حكم مصير اغلبها مربوط بمصير دولة الاحتلال، وهي ايضا أكاذيب صهيونية وغربية هدفها تكبيل ارادة الانسان العربي ووضعه دائما تحت سلطة استبدادية مُتَحكّم فيها من الخارج.
ايهما اصلح واجدى في الصراع من اجل تحرير فلسطين: سُلط ضعيفة ومواطنين اقوياء ام سُلط استبدادية ورعايا مسحوقين؟ ايهما انفع لقسطين: انظمة ديمقراطية وحُكام يخافون شعوبهم ام حكام اقوياء على شعوبهم ضعفاء تجاه " اسرائيل" والغرب؟
لنجيب عن هذه الاسئلة علينا ملاحظة التالي: بيّن طوفان الاقصى ان هناك تناسب عكسي يحكم عملية انخراط القوى الشعبية في المعركة: كلّما ضعفت السلطة في مكان ما كلّما ارتفعت، كمّا ونوعا، مشاركة الناس في المعركة.
فغزة، المّتحررة من كل سلطة عربية هي من تقاوم الان طيلة ستة شهور، وهو امر لم تستطع أي دولة عربية القيام به طيلة اكثر من سبعين سنة ، وحزب الله واليمن والحشد الشعبي في العراق يشاركون فعلا في القتال ويدفعون الشهداء، اما الاردن التي يشكل الفلسطينيون 40% من السكان فلم يتجاوز جُهد الناس فيها اكثر من القيام بمظاهرات، ولم يستطيعوا ايقاف الطريق البري الدي يمد العدو بالمؤونة. اما الشعب المصري فقد سُمحَ له بمظاهرة واحدة، وعجز عن فتح معبر رفح. وعلينا ان نتصور ماذا يمكن ان يحدث لو كانت هناك ديمقراطية وحياة سياسية في كل من مصر والسعودية والاردن.
من العجيب ان تكون الاجيال السابقة، التي عايشت النكبة و56 و67 وحرب اكتوبر، قد تفطنت ان الدولة العربية، مهما كانت ممانعتها، عاجزة على تحرير فلسطين، وذلك بحكم الالتزامات التي تقع عليها بحكم انها عضو في منتظم دولي، شأنها شأن "اسرائيل" بما هي دولة مُعترف بها. وتفطنوا ايضا ان الارض لا يمكن ان تتحرر الا بالعمل الفدائي والمقاومة الشعبية، وهذا يشترط ان تكون انظمة الحكم، في دول الطوق على الاقل، انظمة تحترم شعوبها وتخاف عقابها عبر صناديق الاقتراع، فتُسهّلُ عمليات التسلل والتسليح ، وتُغمضُ عينها على من يذهب للقتال، تماما مثلما فعلت الكثير من الدول الغربية خلال الحرب الاهلية الاسبانية، او خلال عمليات التطوع ضد الوجود النازي في فرنسا وايطاليا.
الديمقراطية ام المقاومة اذن؟ علينا ان نعمل من اجلهما معا وفي الان نفسه: كل شبر تحرره المقاومة يدخل في موازين الانتصار في معركة التحرر من الهيمنة الخارجية، وكل مكسب ديمقراطية هو انتصار على قوى الهيمنة الداخلية المتحالفة مع الاعداء.
علينا ان نكُف عن الخلط المُتعمّد بين انظمة الحكم القائمة وفكرة الدولة، وعلينا ان نعي ان اشكال الحكم القائمة لا ترتقي لا الي درجة الدولة بمعناها الحديث ولاهي وطنية. هي اشكال سلطانية من الحكم حياتها وموتها منوط بحياة وموت المشروع الغربي في فلسطين.
كل من يقاتل من اجل الديمقراطية داخل الاقطار العربية لا يقل شرفا ولا تأثيرا عمن يقاتل بالسلاح في جبهات المواجهة، وعلينا ان نُعامل من يعطل مسيرة الديمقراطية على انه متحالف مع الصهيونية ولا نصدقه مهما رفع من شعارات ولو تعلّق بأستار الكعبة.