منذ أن اندلعت مواجهة "طوفان الاقصى" ، اشرت وفي اكثر من مقال الى ضرورة أن تبني المقاومة حساباتها في هذه المعركة على الاسس الاستراتيجية التالية :
1- ان الهدف الرئيسي لإسرائيل هو تصفية المقاومة في غزة ونزع سلاحها ، وان اسرائيل تراهن على الآتي:
أ- المراهنة على استنزاف المقاومة عسكريا الى حين الوصول الى اقصى درجات الاستنزاف في العتاد تحديدا من صواريخ وقذائف وذخيرة خفيفة ومتوسطة، لا سيما ان الصاروخ او القذيفة او الطلقة التي تذهب يصعب تعويضها الفوري او السريع، وهو ما تحاول المقاومة الآن تعويضه من خلال قصف من الجنوب اللبناني للأهداف الاسرائيلية تختلط فيه المسؤولية بين حزب الله وبين المقاومة الفلسطينية، لكنه يوفر مخزون العتاد في غزة الى حد ما من جانب ويبقي القدرة على الرد قائمة استنادا لمخزونات حزب الله من جانب آخر.
ب- المراهنة على استمرار النقص في المواد التموينية والماء والكهرباء والدواء ليموت الناس إما بالسلاح الاسرائيلي او بالجوع والعطش والمرض، وهو ما يزيد العبء على كاهل المقاومة بخاصة مع استمرار التنصل المصري والضغط الاسرائيلي المسنود غربيا لعرقلة تدفق المساعدات الى القطاع.
ت- المراهنة على ان الموقف الرسمي العربي لن يتغير قيد أنملة ، وان الموقف الشعبي العربي سيبقى يتراوح بين الأناشيد وبين الدعاء لله.
ث- استخدام القنوات الخلفية لاطلاق سراح الاسرائيليين المدنيين اولا ثم العسكريين عبر المزاوجة بين الضغط العسكري الاسرائيلي من ناحية والغواية القطرية بدعم مالي واعلامي للمقاومة من ناحية ثانية، وهو ما قد يفتح مجالا لخلافات بين التنظيمات الفلسطينية حول هذه النقطة تحديدا ،لاسيما ان لدى الجهاد الاسلامي عدد غير قليل من الجنود الاسرائيليين.
ج- من دراستي العلمية والتفصيلية لشخصية نيتنياهو ارى انه لن يتراجع عن " تحقيق انجاز" يعزز موقفه مهما تلطخ هذا الموقف بالدم الفلسطيني او حتى بالدم الاسرائيلي.
ح- العمل على وضع غزة بكيفية او اخرى تحت سلطة التنسيق الامني الفلسطيني، ولا يساورني أدنى شك ان قيادة سلطة التنسيق الامني في الضفة الغربية مشغولة بمنع انفجار الامن في الضفة من ناحية وبعدم انتصار المقاومة في غزة او خروج هذه المقاومة وقد احتفظت بقدر كاف من عافيتها العسكرية من ناحية ثانية.
2- الموقف العربي: يقتصر الموقف العربي الاستراتيجي في قوتين اساسيتين في هذه المعركة وهما:
أ- محور المقاومة: ليس امام هذا المحور الا مسارين هما : إما ان يدخل المعركة دخولا كاملا او ان يبقى يراوح في حدود المشاركة في مستوى " اللسع العملياتي" لا اكثر، ويمكن ان يضع الدخول البري الاسرائيلي الى غزة هذا المحور في وضع حرج للغاية، لان عدم فتح جبهات محور المقاومة- في حالة وقوع الحرب البرية- سيفقد هذا المحور مصداقيته الشعبية من ناحية، وسيعطي اسرائيل شعورا بحدود ضيقة لمناورات هذا المحور إذا بلغت المعركة ذروتها عبر الحرب البرية من ناحية ثانية . ويبدو لي –كافتراض اولي- ان هناك خلافا بين اطراف المحور حول مستوى التدخل في المعركة، إما بين الاطراف (ايران- حزب الله- انصار الله- الحشد الشعبي العراقي- مع تشاور مع سوريا ) او هناك خلافا داخل بعض الاطراف ذاتها ، ويبدو ان غياب السيد نصر الله عن الظهور او الخطاب او التصريح يثير القلق ويزيد الحيرة من هذا الجانب، فهل هناك خلافات في قيادة حزب الله؟ ، أو أن الحزب اما لا يريد توسيع المواجهة او ان ايران تضغط عليه لعدم توسيع دائرة المواجهة ، اللهم إلا إذا كان في الامر " دهاء " لا يعرف احد ملابساته، والخلاف في التقدير الاستراتيجي لمثل هذه المواقف امر طبيعي ومتوقع وغير مستهجن ، فهو – مثلا - موجود بين القيادات العسكرية والسياسية الاسرائيلية من ناحية وبين اسرائيل وحلفائها ولكن في بعض التفاصيل لا كلها.
واعتقد ان الاختبار الوحيد الباقي هو الحرب البرية، فاذا لم ينضم محور المقاومة وبشكل يتوازى مع مستوى الفعل الاسرائيلي في غزة في حربها البرية ،فاني اجزم ان ملف محور المقاومة سيوضع فوق ملف "جبهة الصمود والتصدي" العربية.
ب- الموقف المصري: بدون مواربة وبكل وضوح ، الموقف الرسمي المصري يتطابق تماما مع الموقف الاسرائيلي من حيث التهلف على " طي صفحة المقاومة في غزة " وبخاصة ان مصر الرسمية لا ترى المقاومة الا كامتداد لحركة الاخوان المسلمين التي تقف على رأس هواجس النظام السياسي المصري. ولعل ملابسات معبر رفح تشير الى ذلك بوضوح، فتهيئة المعبر من الجانبين المصري والفلسطيني امر ايسر كثيرا من الناحية اللوجستية مما يتم الترويج له، فالجيش المصري الذي بنى جسورا عائمة فوق قناة السويس في ساعات قليلة في حرب اكتوبر لعبور آلاف الجنود والدبابات عام 1973 رغم القصف الجوي والبري الاسرائيلي عليه وبكثافة اكثر كثيرا مما يجري الان ..فهل يعجز هذا الجيش عن تأهيل سريع لمعبر رفح لعبور شاحنات الإمدادات المدنية ؟
نعم مصر ترفض التهجير لأنها "تختلف في الرأي " مع اسرائيل في ان التهجير " سيورط مصر " في القضية الفلسطينية ويعيدها ثانية لميدان هذه القضية ،وهو امر يحرص النظام السياسي على تجنبه تماما الا في "التعاطف السياسي" لا أكثر ، فمن يبني جدرانا حديدية تحت ارض رفح لمنع تهريب البضائع لغزة لن يفتح ما فوق الارض إلا بعد التنسيق مع الطرف الامريكي والاسرائيلي ومقابل منافع مادية صرفية قد تكون الديون إحداها.
اما الشعب المصري في معظمه، فموقفه معروف وتعاطفه مع المقاومة لا حدود له، لكن وزن الشارع المصري في صناعة القرار السياسي الرسمي تكاد لا تذكر ،شأنها شان الشوارع العربية كلها، فالنظم السياسية العربية لا تعتبر الشارع جزءا من متغيرات صنع القرار ، لان كل راع مسؤول عن "رعيته" ، فلا دور للقطيع في قرارات الراعي.
3- الموقف الدولي: يتضح الموقف الدولي في المؤشرات التالية:
أ- لم يؤيد مشروع القرار الروسي في مجلس الامن الدولي بوقف اطلاق النار إلا خمس دول من 15 دولة..
ب- استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو ضد مشروع القرار البرازيلي في مجلس الامن رغم ان مشروع القرار يدين هجمات المقاومة ولكنه يدعو لوقف اطلاق النار. ورغم تاييد 12 دولة للمشروع البرازيلي إلا ان الولايات المتحدة تبنت الموقف الاسرائيلي واستخدمت حق النقض ليستمر القصف الاسرائيلي ليزداد الضغط على المقاومة.
ت- التوافد الغربي من خلال قيادات هذا الغرب الى فلسطين المحتلة للاعراب عن التأييد المطلق لنيتنياهو بل وتبني المطالب الاسرائيلية دون اي تحفظ باستثناء عدم التشجيع لاسرائيل على توسيع المعركة والانتقال بها لحرب برية قد تصل الى مواجهة اقليمية يستفيد منها الروس والصينيون وترتفع اسعار النفط وتضطرب التجارة الدولية والنقل البحري بكل ما لذلك من تداعيات اقتصادية وسياسية واجتماعية على الغرب.
ذلك يعني:
1- ان مستقبل المقاومة في غزة اولا ومحور المقاومة في المنطقة ثانيا يحتاج لحسابات " ببيض النمل" ، ومستقبل هذا المحور مرهون بمشاركة تامة في المعركة اذا تحولت الى برية وبتصعيد يتوازى مع كل تصعيد اسرائيلي.
2- النظام الرسمي العربي لا يقل لهفة عن اسرائيل للتخلص من المقاومة مهما إدعي غير ذلك، فحتى رغم وصول القتلى والجرحى الفلسطينيين الى قرابة العشرين الفا لم يتم اتخاذ اي اجراء عربي واحد(أكرر لم يتخذ اي نظام عربي اجراء واحد له دلالة) ، فالتطبيع والسفراء الاسرائيليون في مكانهم وحصانتهم، ووكيل دبلوماسية الإنابة يواصل الجمع بين " سيف العدو وذهب المُعزْ"، فالنظام الرسمي العربي لا ينظر للمقاومة إلا أنها " أذرع ايرانية يجب قطعها" او امتداد لحركة الاخوان المسلمين ذات الشعبية العريضة في الشارع العربي بشهادة الانتخابات البرلمانية ( حتى مع التزوير) وبشهادة استطلاعات الرأي العام العربية والغربية والاسرائيلية، فهي حركة تراها بعض الدول " خطرا" ولا تريد ان ينجح لها اي مشروع يعمق شعبيتها.
ورغم اخطاء هذه الحركة بخاصة في بعض تحالفاتها التاريخية( التي تحولت الان عدوا لها(او تحالفاتها المعاصرة مع الخليفة العثماني عضو الناتو والشريك التجاري والسياحي الاول لإسرائيل و ١٢ اتفاقية امنية مع اسرائيل ) لكنها تعبير عن ارادة قطاع كبير من المجتمع العربي يجب احترامه من جانب كل من يحترم ارادة الشعوب... فمن يختلف مع هذه الحركة فكريا فهو يمارس حقا طبيعيا، لكنه يجب أن يحترم ارادة الغالبية إن لم تكن الغالبية في صفه، وهذه قاعدة لا يقبلها النظام السياسي العربي الرسمي .