يدور التفاوض الحالي بين المقاومة الفلسطينية واسرائيل في بيئة سمتها التعقيد والغموض والتحايل، ففي الوقت الذي تحاول الولايات المتحدة الإيهام بأجواء ايجابية للتفاوض في الدوحة ، تؤكد مصادر المقاومة تصريحا وتلميحا بأن الطرفين " بينهما برزخ لا يبغيان"، والمسافة الفاصلة لم تتغير.
تقوم الاستراتيجية الامريكية في هذه المفاوضات على الاسس التالية:
أولا: انجاز اتفاق يساعد في تعزيز فرص المرشحة الديمقراطية كمالا هاريس في مواجهة ترامب، ولعل تصريحات ترامب حول "شعوره بحاجة اسرائيل لمساحات جديدة" هي رد يستهدف الناخبين الامريكيين من انصار اسرائيل.
ثانيا : تعتقد الولايات المتحدة ان تحقيق انجاز في المفاوضات قد يجعل رد محور المقاومة على الاغتيالات الاسرائيلية لقادة من المحور اكثر تعقيدا ، فهي تعتقد ان الفشل في الوصول للحل سيجعل رد محور المقاومة متسقا مع مجريات الواقع بخاصة من زاوية مصداقية المحور مع انصاره، لكن تحقيق اتفاق سيوفر بيئة لمحور المقاومة ليتخلص من عبء الرد وتداعياته ويكتفي بالقول بان تهديدات الرد تقف وراء انجاز الاتفاق، وهنا يكمن الخداع الامريكي الذي ليس له هدف الا منع الرد ومنع التصاعد في الاضطراب الحاد في الشرق الاوسط والذي لا تراه الولايات المتحدة مقبولا لأسبابها الداخلية والخارجية،فلديها في الظروف الحالية ما هو أهم بخاصة في مواجهة روسيا والصين.
ثالثا: من المؤكد ان الولايات المتحدة ستعمل على زيادة توظيف الدور المصري والقطري باتجاه التحول من "وسطاء" الى شركاء في الضغط على المقاومة للاستجابة باتجاه تقديم تنازلات تضعف المقاومة وبالتالي يستطيع نيتنياهو ان يروج "للنصر المطلق" الذي يطالب به باستمرار، فمصر تمتلك سيف المعز من خلال تحكمها بالمعابر، بينما تمتلك قطر "ذهب المعز" الذي يمكن ان يغوي المقاومة في ظل القسوة غير المسبوقة للظروف الحياتية في القطاع، مع ضرورة التنبه الى أن ايا من الطرفين العربيين المشاركين في التفاوض لا يملك مراوغة الولايات المتحدة في سياستها.
رابعا: ليس لدى أدنى شك في ان الولايات المتحدة هي التي طلبت من رئيس سلطة التنسيق الامني الذهاب الى تركيا والقاء خطابه، فهو لا يقل حماسا عن اسرائيل في الرغبة بالتخلص من المقاومة، ويريد تأكيد أهليته لمد سلطته بالتنسيق الامني الى قطاع غزة ، وهو ما تريد به الولايات المتحدة اقناع اسرائيل ان سلطة اوسلو ستضمن امن اسرائيل من المقاومة المسلحة في القطاع على غرار ما تضمنه في الضفة الغربية، فالذي غاب عن غزة منذ 17 عاما وهي في وضع افضل كثيرا من الوضع الحالي ، يبدي رغبة جامحة الآن في زيارتها وهي أطلال، فعينه اليمنى ليست على آلام الشعب بل على تأكيد " سلطة ودور" في قطاع غزة مع انه يفتقد السلطة والدور حتى في اسرته الصغيرة من ناحية، وعينه اليسرى من ناحية اخرى على ما ينتظره من احتمال تدفق المساعدات العربية والاسلامية والدولية ليضعها تحت سلطته ويحرم المقاومة من ان تكون هي صاحبة الأمر في ذلك، رغم أنه لا يحظى الا بتأييد 7% من الشعب الفلسطيني(طبقا لعشرات استطلاعات الراي العربي والغربي والفلسطيني) ناهيك عن سلطته التي تقع ضمن أعلى 35 دولة في مستوى الفساد، وتقع ضمن اعلى 15 في مستوى فساد اجهزتها الامنية( طبقا للمؤسسات الدولية المتخصصة في هذه المؤشرات).
اما اختياره لتركيا ليلقي خطابه فيتزامن مع بداية ظهور شقوق تتسع في العلاقة التركية الاسرائيلية بخاصة بعد سحب السفراء تقليص التبادل التجاري والتلميحات التركية الايجابية تجاه سوريا وصولا لتهديدات بدور تركي في القطاع وبظلال عسكرية،وبالتالي فانه يتودد لتركيا محاولا توظيف الموقف التركي مستفيدا من "خصوصية الموقف التركي " مع حماس تحديدا، ويأمل ان تمارس تركيا قدرا من الاقناع للمقاومة للقبول بدور لسلطة التنسيق الامني.
خامسا: ان السوابق التاريخية في التفاوض مع اسرائيل تشير الى عدم احترام اسرائيل اي اتفاق ، وليس هذا زعما انشائيا ، فإسرائيل هي التي تحتل طبقا لوثائق الامم المتحدة المرتبة الاولى عالميا في عدد مرات إدانة الامم المتحدة لها، وهي التي حظيت باستخدام الولايات المتحدة حق الفيتو في مجلس الامن 57 مرة لصالحها..وعليه، فان الولايات المتحدة تريد خلق بيئة تفاوضية تسمح لإسرائيل لاحقا بالتملص من اية التزامات قد تفرضها نتائج المفاوضات الجارية، ويوفر لها الاستمرار في سياستها الاستيطانية والحصار لغزة وتهويد القدس غير عابئة لا باتفاقيات جديدة ولا بوصاية هاشمية ولا بأوسلو ، بل بنزع سلاح المقاومة وتصفيتها لا كمؤسسة فقط بل وكمناهج تعليمية.
سادسا: ان الخطاب الامريكي المتفائل بالتسوية ليس موجها للحكومات العربية بل للمجتمع العربي ، فمواقف انظمة التطبيع لا رجعة فيها من وجهة نظر امريكية ، ولكن القلق من ان استمرار التوتر والانحياز الواضح والمعلن لإسرائيل ،والمذابح البشرية وقرارات المحاكم الدولية تزيد من قاعدة الدعم الشعبي للمقاومة، وتدرك الولايات المتحدة ان الشعوب هي الباقية بينما الانظمة لا تعدو ان تكون مراحل عابرة..فالترويج للمفاوضات والقرب من الحل هو تخدير للمجتمعات وبتنسيق مع الانظمة العربية التطبيعية…
وعليه، لن تتراجع اسرائيل عن تحقيق اكبر قدر ممكن من طموحات نيتنياهو في القطاع، وهي تريد دعما امريكيا لم ينقطع لا عسكريا ولا سياسيا ولا اعلاميا ولا اقتصاديا بل انه يتزايد، وتطمئن اسرائيل لسياسات دول التطبيع بقدر لا لُبس فيه، وهو ما يعني ان تصريحات قادة المقاومة هي الاقرب للتوصيف الدقيق ، وهي تستهدف ابقاء الاصبع على الزناد ..لان هذه هي بيئة التفاوض من منظور المقاومة... ولا بد من رفض اي تسوية لا تتضمن بشكل صريح الانسحاب الاسرائيلي من القطاع وان تنتهي مشكلة الاسرى الاسرائيليين مع خروج آخر جندي من القطاع وبدء ترميم المعابر بين مصر وفلسطين…