شكَّل شعر الهجاء والمديح في التراث العربي ملمحا متفردا قياسا للتراث الأدبي لأغلب مناطق العالم، واتخذ هذا النهج في قسماته المركزية شكل التهويل في المثالب النفسية والجسدية للجهة موضع الهجاء ، والمبالغة المفرطة في سمات وفضائل الجهة موضوع المديح، ولم يكن أحد يتحرى مدى صدق المديح او الهجاء ، نظرا لاستقرار العقل الباطن حولهما بأنهما " كذب فاضح وغير بريء".
ولأن القدرة في تورية كذب الهجاء والمديح تمنح الشاعر مكانة مُهابة ، لأنه يقوم بمقام الوسيلة الاعلامية للدفاع عن "الرموز المصنوعة او الحقيقية من نخب ذلك المجتمع او كحائط صد امام سهام الآخرين المتجهة للقبيلة.
ومع التطور التكنولوجي واتساع قاعدة الوعي بدأ دور الشاعر الكذاب يتوارى لكنه لم يختفِ ، فشعراء البلاط يطلون علينا بين الحين والآخر هنا وهناك ، لكن وسائط التكنولوجيا في نطاق الفضاء الاعلامي تحل محله تدريجيا ، وارتبط دورها في عالمنا العربي بإعادة انتاج الكذب والتملق من خلال الخبر والصورة والكاريكاتير والاغنية والفلم والمسلسل والتركيب للصورة عبر الذكاء الاصطناعي والدبلجة...، واصبحت السياسة هي الميدان الاكثر طغيانا في هذا المقام.
غير ان الامر الملفت للنظر هو ان عدد الفضائيات العربية ( بعد تواري دور الاذاعة والصحف الورقية) تزايد حتى بلغ عام 2023 ما مجموعه 1394 قناة فضائية منها 68 قناة اخبارية و 95 قناة دينية والباقي يتوزع على قنوات الدراما(مسلسلات وافلام 152 قناة ) وقنوات الغناء(124 قناة) والرياضة(170 قناة) وآخر القائمة القنوات العلمية بعدد لا يتجاوز العشرين بما فيها قنوات اليوتيوب.
واذا اضفنا 18 قناة فضائية اخبارية اجنبية لقطاع الاخبار يكون المتلقي العربي يتعرض لأخبار سياسية من 86 قناة فضائية، كل منها يغني على ليلاه، ولو حسبنا نسبة السكان إلى عدد الفضائيات العربية سنجد ان المنطقة العربية تحتل المرتبة الثانية في عدد الفضائيات الى عدد السكان، ولكنها الاولى في عدد الفضائيات الاخبارية الاجنبية الموجهة لها.
ما يهمني في هذا الجانب هو الاستبداد السياسي العربي يجعل كل هذه الفضائيات تعمل في اطار ضيق للغاية، إذ ان الاخبار السياسية وكل ما له ظلال سياسية من افلام او مسلسلات او برامج دينية او أغأنٍ، يجب ان تسير وفق قواعد يضعها النظام السياسي، وهو ما ينفي عن هذه الفضائيات اي نزاهة او حياد. ذلك يعني ان ال 889 قناة فضائية عربية خاصة ليست إلا أدوات للمستبد ، فكيف يمكن لنظام سياسي حكم 15 سنة على شاعر المح لبعض النقد تلميحا أن يقنعنا بأن فضائيته هي للرأي والرأي الآخر، والفارق بين الفضائيات العربية هو في " الذكاء في الكذب"، والقدرة على التمويه في المادة الاعلامية خبرا كانت او مسلسلا او اغنية او حديث ديني.
لكن الخطورة في الفضاء الاعلامي هو "التعميم" للمواقف الفردية في الفضائيات والفيديوهات وقنوات اليوتيوب(سياسية وغير سياسية)، ونقل ما يتم طرحه كما لو انه تعبير عن ارادة المجتمع، فكثير من المادة الاعلامية التي تنقلها الفضائيات او المسلسلات او الافلام او اليوتيوب والتي يتم فيها طرح موقف فردي من قضية معينة يتم اعتبارها تعبيرا عن موقف المجتمع في الموضوع المطروحة مع انها لفرد قد يكون باحثا عن منفعة مادية او طالب شهرة، ولعل موضوع الموقف من محور المقاومة هو الأجلى في هذا الشأن، إذ يخرج علينا كاتب او مذيع او ممثل او سياسي او رسام كاريكاتير او شيخ دين بموقف "متشنج او اتهامي لقوى المقاومة" ، فتكون ردة الفعل ضد مجتمع ذلك الفرد، ويزداد الامر سوءا في انه حتى انصار محور المقاومة يشرعون في مشاركة هذا الأمر مع اصدقائهم من باب فضح مجتمع المتحدث او الغمز منه، وهو ما يشكل دعما لمزيد من الإحن بين شعوب المنطقة ، وهو امر يستوجب التنبه لمخاطره البعيدة.
ان الضرورة تقتضي التنبه الى ان عشرات استطلاعات الرأي العربية والغربية تؤكد بان مساندة المقاومة ضد اسرائيل والموقف من اليهود والتطبيع لم تقل في اي بلد عربي عن 80% في اجمالي مؤشرات الموقف من اسرائيل. ذلك يستوجب التوقف عن تعميم هذه الفيديوهات او الأخبار او ما شابهها، لأن نقلها يساهم في خطة الطرف الآخر في تعميق الشقوق في جدران مجتمعاتنا، ولا يستفيد من التعميم إلا انظمة الاستبداد واسرائيل.
إن كل من يتهم مثلا المجتمع الخليجي بانه يقف ضد المقاومة مستندا لشواذ هذا المجتمع عليه ان يطالب بإجراء استفتاء بين الشعب الخليجي خاصة او اي مجتمع عربي آخر حول الموقف من المقاومة، وسيجد بان المساندة الشعبية ارتفعت بعد طوفان الاقصى وفي كل المجتمعات العربية بدون استثناء وإنْ تفاوت التزايد بين مجتمع وآخر.
خلاصة الامر، لا يجوز اعادة انتاج الكذب مدحا او هجاء ، فمثلما كان هناك شعراء التكسب الذين جعلوا من كافور "ابا الطيب لا ابا المسك وحده، ثم ارتدوا بجعله ممن" لا تشتري العبد الا والعصا معه" ، ولا يجوز السماح لنفسك بأن تكون أداة التعميم التي يتمناها المستبد والعدو على حد سواء ، فلا تضع (Like) ولا تشارك(Share) الا إذا كان رأيا موضوعيا او عملا يحترم العقل ولا ينم عن تكسب من وراء حجاب حتى لو خالف قناعتك.
انني اتحدى اي نظام خليجي –او عربي- ان يفتح الباب لاستطلاعات الراي لتحديد الموقف من المقاومة ، او يفتح الباب امام التبرعات المادية المختلفة للمقاومة، وستجدون ان في الخليج أناس هم " أندى العالمين بطون راح" ولكنهم بدون كذب ذلك الشاعر...ربما.