بعد أن قدم غورباتشوف مشروع اعادة الهيكلة(البيروسترويكا) عام 1987، نشرت مقالا في صحيفة الشعب الجزائرية تحت عنوان :غورباتشوف يشبه فرانكشتاين"، وكانت خلاصة المقال الطويل بان مشروع البيروسترويكا هو تعبير عن استراتيجية تحاول اصلاح النظام السوفييتي لكنها ستنتهي الى تفكك الامبراطورية ، وحينها توالت علي الانتقادات من حنابلة الماركسية.
في مقالي هذا، ومن باب الاستمرار في طرح فكرة " التراجع الامريكي" التي بدأتُ الكتابة عنها منذ 1996 في دراسة مع مركز الدراسات الاستراتيجية/ الاهرام ، فإني اطرح فكرة " آفاق العنف القادم" للمجتمع الأمريكي، فقد علمتنا دورات التاريخ ان كل الحضارات لها أعمار ،وقد لا تموت الحضارة لكنها تشيخ الى حد العجز، وتبقى لها اطلالها ، ويكفي تأمل الاطلال البريطانية –التي وصفت بأنها الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس .
ولست في كتابتي هذه مدفوعا بالرغبة في الانتقام من دولة طالت أوزارها حياة العرب ،ولا اكتب من باب التفكير الرغبي، لكني أكتب من باب التنبيه للقادة والنخب والجمهور العربي لكي يبحثوا عن تحالفات اقل سوءا ، وان يدركوا ان بنية النظام الدولي لم تعد هي البنية التي كانت خلال النصف قرن الماضي.
ما أود التوقف عنده هنا هو طرح احتمال اصبح اقرب للمسلمة لدى طيف واسع من الباحثين الامريكيين ،ألا وهو احتمال ان تكون الولايات المتحدة على ابواب تحولات ستبدأ بتصاعد العنف الاجتماعي والسياسي وقد تصل الى حرب اهلية ولكن بمظاهر تختلف عن الحرب الاهلية 1861-1865، ويكفي تأمل المؤشرات التي وردت في تقرير للسي آي ايه (CIA ) الامريكية عام 2012 تحت عنوان :The Analysis of Insurgency، والتي تستعرض المراحل التمهيدية التي تسبق الحروب الاهلية ثم مرحلة الانغماس في الحروب الاهلية ثم نتائجها ، وفي كل مرحلة لها مؤشراتها وقياسها ،ليصل مجموع المؤشرات الى 49 مؤشرا.
وتستثمر Barbara Walter في دراسة لها النموذج وتطرح تصورا حول " How Civil Wars start" ، بينما يبني الباحثان Jack Goldstone and Peter Turchin نموذجا بعنوان Revolution and Rebellion in the Early Modern World,، لتنتهي هذه الدراسات الى أن الظروف التمهيدية للعنف الاجتماعي والسياسي في الولايات المتحدة اصبحت واضحة لفيض يكاد ان لا يحصى من الباحثين ، ويكفي ان نتأمل المؤشرات التالية التي تكاد ان تكون العمود الفقري لاغلب النماذج التطبيقية التي اشرت لها ولغيرها:
1- النزوع المتزايد من الولايات لتقليص مساحة تدخل الحكومة الفيدرالية الامريكية في الشأن الداخلي.
2- التراجع الواضح في معدل الاستقرار السياسي في الولايات المتحدة ، فقد تراجع هذا المعدل من 0.66 ايجابي(نموذج EIU ) عام 2015 الى 0.04 سلبي عام 2023، وان التراجع منذ بداية القرن يأخذ طابعا متذبذبا وغير خطي(Nonlinear)،لكن المحصلة سلبية بشكل واضح.
3- مظاهر الاضطراب الاجتماعي، فخلال العشر سنوات الماضية تزايدت المظاهرات السلمية(900 مظاهرة عام 2023) والمظاهرات التي تم استخدام العنف فيها (350 مظاهرة) وتصاعد الاضرابات (150 اضرابا)
4- تآكل الطبقة الوسطى، فمنذ 1970 ونصيب هذه الطبقة في توزيع الدخل يتقلص ،وتراجعت نسبتها من 62% الى 43% حاليا، وهي الاسوأ بين الدول الصناعية،مع التذكير بان نظريات علم الاجتماع السياسي تؤكد العلاقة بين الاستقرار السياسي وحجم الطبقة الوسطى.
5- تزايد الفروق الطبقية داخل المجتمع الامريكي، فقد تراجعت عدالة التوزيع (Gini Index) من 0.43 الى 0.46( معلوم انه في مؤشر غيني كلما كان الرقم اعلى فهو مؤشر على اتساع اكبر للفروق الطبقية).
6- تزايد العنف المدفوع بدوافع سياسية بخاصة بين جمهور الحزبين الاكبر(الديمقراطي والجمهوري)،فقد ارتفعت نسبة الجرائم ذات الدافع السياسي من 7% خلال العشرية الاولى من هذا القرن الى 37% مع عام 2023.
7- الجريمة الاجتماعية(الفقر ،العنصرية، الدين،الجنس...الخ) ،تشير الاحصاءات الامريكية الى ان معدل الجريمة ارتفع بمعدل 43% خلال الفترة من 2010 الى 2021، وتحتل الولايات المتحدة المرتبة 56 من بين 130 دولة من حيث الرتبة (أي ان هناك 74 دولة افضل من الولايات المتحدة في معدل الجريمة)
8- التوقعات الشعبية ، إذا تشير استطلاعات الرأي الامريكي الى أن حوالي 51% من الامريكيين يعتقدون ان الظروف التمهيدية للحرب الاهلية قائمة في المجتمع الامريكي.
ان المؤشرات السابقة تقع ضمن الظروف التمهيدية للعنف الداخلي ،لكن مؤشرات انتقال هذا العنف الى مستوى الحرب الأهلية يرتبط بما يلي:
أ- استمرار تزايد حجم اليمين المتطرف في المجتمع الامريكي وتزايد انحياز يمين الوسط نحوه.
ب- الاستقطاب الحاد بين الاقليات والنخب وجماهير الاحزاب ، فالإنكفاء الاجتماعي نحو الولاءات الآلية على حساب الولاءات العضوية (طبقا لنظرية دوركهايم) يعزز نزعة الاستقطاب.
ت- تزايد انتشار الجماعات المسلحة ، تزايدت ظاهرة التنظيمات المسلحة(مليشيات) بشكل ملفت في الفترة من 1990 الى آلان ، وبعضها منتشر في اغلب الولايات (مثل: 3 Percenters أو Oath Keepers) وبعضها يتمدد في ولاية معينة ولكن في اغلب مناطق الولاية ، ويميل اغلب عناصر هذه المنظمات الى اليمين المتطرف، ويزيد عدد هذه التنظيمات المسلحة حاليا عن 80 تنظيما مسلحا.ولعل اكثر الولايات قلقا من نشاطات هذه التنظيمات هي بنسلفانيا،وميتشغان،جورجيا،ويسكونسن، وأورغون، والملفت للنظر في هذه المليشيات هو ان مستويات عنفها وتكرارها غير مستقر،لكن الملاحظة الاهم ان الارتفاع في اعمال العنف يترافق مع الانتخابات المحلية او الرئاسية، وعند المقارنة بين اعداد عمليات العنف بين 2020 و 2021 ارتفعت الحوادث من 202 الى 528 حادث عنف مارسته هذه المليشيات.
ث- اتساع قاعدة بعض الحركات المتطرفة والعنصرية مثل Unite the right أو Make America Great Again، وهي حركات يغلب عليها أنها معادية للهجرة وللتنوع الإثني وللعولمة والاندماج الاقتصادي ،وهي تضم في عضويتها حوالي 40% من الجمهوريين.
ج- انتقال الحوار السياسي بين القوى بعد ظهور ترامب من مستوى النقاش العقلاني الى التحريض الشخصي والنقاش المتدني في مستويات ما يتم طرحه، وهو الامر الذي تزايد بعد يناير 2021 وطال بعض مؤسسات الدولة الهامة.
ومن المحتمل ان تشكل الانتخابات الرئاسية القادمة في نوفمبر هذا العام اختبارا مهما من زاوية البيئة التي ستكون مهيأة لتعميق الشروخ وربما الزحف نحو عنف اوسع قد لا تكفي مرونة النظام الراسمالي للجمه..لأنه قد ينكفئ ليعود بعد ذلك لان المعطيات العامة ستعيده ..فقد نشهد بعض الاغتيالات لشخصيات هامة او مرشحين او عمليات عنف ضد جماعات محددة ، وهنا نكون على اعتاب الغسق الامريكي ، وهو ما يستدعي التفكير في عواقبه ...ربما.