تشير معاينة السياسة التركية تجاه المنطقة العربية منذ 2003(رئاسة وزراء اردوغان) مرورا برئاسته الجمهورية(2014) حتى الآن الى إزدواجية في الموقف العربي الرسمي منه من ناحية وموقف الحركة الدينية وبخاصة الاخوان المسلمين من ناحية ثانية.
ويتجلى الالتباس الاول في أن خصومة الانظمة العربية الرسمية –ولو بمستويات مختلفة- للإخوان المسلمين امتدت للقلق من انتصار الحزب الاسلامي في تركيا(العدالة والتنمية) من اوائل سنوات هذا القرن، ونظرت الدول العربية الى هذا التطور بقلق شديد لانه يعطي نموذجا على السماح للإرادة الشعبية باختيار الحاكم ، فإذا اضفنا لذلك القلق الرسمي العربي من النموذج الايراني، تصبح مواقف الانظمة العربية واضحة، فهي امام نموذجين انتهيا الى نفس النتيجة المقلقة للأنظمة العربية، فالنموذج الثوري في ايران اوصل الاسلام السياسي للسلطة والنموذج الديمقراطي في تركيا كرس هذا الوصول، وهما من منظور الانظمة العربية خياران " أحلاهما مُرُ".
وإذا كان العداء العربي الرسمي لايران اخذ اتجاها عنيفا( من حرب العراق الى الحروب الاعلامية التي لا تنقطع ثم المواجهات الصريحة والضمنية مع حلفاء ايران ) فان المواجهة مع تركيا كانت اقل حدة ولكنها تتدثر بالغمز واللمز، وما موقف دول الخليج ومصر من قطر في مرحلة من المراحل الا نتيجة الشعور بان قطر ابقت شعرة معاوية مع النموذجين الثوري والديمقراطي ، مع ان الامر لم يتجاوز دبلوماسية الإنابة.
فإذا كان هذا هو الالتباس في موقف الانظمة الرسمية العربية ، فما هو الالتباس في الحركات الشعبية بخاصة الاثقل وزنا في الساحة العربية؟ كان الالتباس الاكبر شاخصا في موقف الاخوان المسلمين كحركة شعبية واسعة النفوذ، فقد ابدت قدرا من الارتياح في البداية مع ايران ثم تباينت مواقفها من حين لآخر، وبرغم الصدام الايراني الاسرائيلي المباشر وغير المباشر ،فان قطاعات واسعة من الاخوان ما تزال متشبثة بثنائية "السنة والشيعة"..وهو موضوع يطول نقاشه، وسبق ان تناولته في دراسة مطولة في مركز الزيتونة تحت عنوان المذهبية الدينية في النزاعات الدولية-حالة طوفان الاقصى.(موجودة على موقعي في الفيسبوك)..
اما الالتباس في موقف الاخوان من تركيا فهو –في تقديري- الاكثر وضوحا، وبخاصة بعد طوفان الاقصى ، فتركيا حتى بداية الطوفان كانت تقيم علاقات دبلوماسية واعتراف قانوني كامل بإسرائيل، وكانت الشريك التجاري الاول لها في الشرق الاوسط ،فقد ارتفعت التجارة بين 2010(بداية الاضطرابات ضد بعض الانظمة في العالم العربي) و 2023 من 3.5 مليار دولار الى حوالي 9 مليار دولار، وبقيت الاتفاقيات الامنية بين الطرفين (12 اتفاقية) سارية المفعول، لكن ذلك كله لم يثر الا تلميحات خجولة في الادبيات السياسية الاخوانية، ولعل الحصار العربي الرسمي لهذه الحركة ساهم في "غض النظر" عن هذه العلاقة التركية الاسرائيلية.
وبعد انفجار الطوفان، وجد الرئيس التركي اردوغان نفسه امام موقف معقد، وتمثلت الضغوط عليه على النحو التالي:
أ- تشقق قاعدته الشعبية والتي كانت ابرز مؤشراتها انشقاق حزب الرفاه الجديد عن حزبه(العدالة والتنمية) عام 2018 بقيادة الشخصية الاسلامية فاتح اربكان، والذي تمكن من تحقيق نتائج مهمة في الانتخابات المحلية مقارنة بنتائجه في البرلمان، ثم جاء الانشقاق الثاني على يد داود اوغلو (احد ركائز حكومة اردوغان) بانشائه حزب الاستقلال عام 2019 بل وتقديمه في النصف الاول من العام الحالي استراتيجية بديلة لنهج اردوغان في اغلب توجهات الدولة، وهو ما يفسر التراجع الكبير والواضح في شعبية اردوغان في الانتخابات المحلية الاخيرة وخسارته للكثير من مواقع نفوذه.
ب- شكل موقف حزب الرفاه الجديد وتوجهات حزب المستقبل تقدما واضحا على موقف اردوغان من تداعيات طوفان الاقصى، فقد دعا اربكان الى موقف حاسم من اسرائيل ،بل وانتقد وبشكل واضح مواقف دول التطبيع العربية التي يحاول اردوغان ترميم العلاقة معها رغم عدائها للإخوان.
ت- شكل تراجع الاداء الاقتصادي وتراجع قيمة العملة التركية وبعض سياسات اردوغان المالية(اسعار الفائدة..الخ) موضع نقد من المجتمع وخبراء الاقتصاد الاتراك.
موقف اردوغان:
رغم استمرار رعايته لبعض مرافق الاخوان المسلمين العرب بخاصة الاعلامية ، ورغم التصريحات التي يطلقها احيانا (مثل التهديد بتدخل في الوضع في قطاع غزة والذي فسرته صحيفة ديلي صباح المقربة منه على ان القصد تدخلا غير عسكري) او اعلانه الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية قبل حوالي شهرين، ثم تقليص التجارة مع اسرائيل في 45 سلعة ليتبع ذلك وقف التجارة مع اسرائيل.
مقابل هذه الاجراءات لا بد من الاشارة الى:
أ- ارسل اردوغان قواته او انجز قواعد عسكرية له في دول عربية( قطر، سوريا، العراق، ليبيا ، الصومال) ناهيك عن تواجد عسكري في مناطق اخرى غير عربية مثل اذربيجان وقبرص وكوسوفو والبانيا ..الخ).لكنه لم يبد اي دور عسكري (باي شكل او مستوى) تجاه غزة، مما يؤكد ان تصريحاته حول التدخل في المنطقة ضد اسرائيل هي تصريحات لفظية في "لحظة نزق" من سياسات نيتنياهو ومحاولة لاستجداء شعبية من قاعدته.
ب- لم تمتد مقاطعة تركيا التجارية لإسرائيل الى موضوع في غاية الاهمية الاستراتيجية وهو عبور النفط الاذربيجاني الى اسرائيل عبر ميناء جيهان التركي (خط باكو-تبليسي –جيهان)، فإذا علمنا ان هذا الخط يزود اسرائيل ب 40 في المئة من احتياجات اسرائيل وبقيمة 1.4 مليار دولار ، ندرك دلالات هذه المسالة.
ت- ان اردوغان سحب سفيره من اسرائيل ولم يقطع علاقاته الدبلوماسية معها،اي ان الاعتراف بالدولة قائم، وهو ما يعني انه ابعد كثيرا عن ما تطالب به حركة الاخوان العربية من حكوماتها دون ان تطالبه بذات الشيء، وهو موقف لا يزيد عن الموقف الاسباني او الايرلندي لكنه اقل كثيرا من الموقف النيكاراغوي التي تصل نسبة الانجليكان المسيحيين فيها(الاقرب للصهيونية) الى 34% و الكاثوليك 45% و 14 % من الغنوصيين والملحدين.
ث- راجت انباء متضاربة عن دور قاعدة كورجيك التابعة للناتو في الاراضي التركية ، فقد تداولت مصادر اعلامية عدة ان هذه القاعدة تزود اسرائيل بمعلومات امنية في غاية الاهمية ،لكن تركيا تصر على عدم صحة ذلك، مع ان انتقال اسرائيل من التبعية للقيادة الأوروبية في القوات الامريكية الى القيادة المركزية في الشرق الاوسط يعزز احتمالات التعاون الاستخباري مع اسرائيل.
ج- بعد الاعلان عن قطع العلاقات التجارية مع اسرائيل تواترت انباء عن ان مقربين لاردوغان ما زالوا يلعبون دورا في ضمان العلاقات الاسرائيلية التركية.
ان علاقات اردوغان مع اسرائيل قبل الطوفان كانت تتطور بشكل واضح ، فقد زار الرئيس الاسرائيلي هرتزوغ تركيا والتقى بأردوغان في عام 2022، والتقى في الامم المتحدة نيتنياهو في شهر سبتمبر أي قبل الطوفان بقليل .
ماذا يعني ذلك:
من الملاحظ ان النزعة البراغماتية لأردوغان تفوق التزامه الديني دون مواربة، ورغم أني من المقتنعين بالدرجة العالية من استقلالية قراراته وبحرصه على مصلحة بلاده، لكن حجم العنف الاسرائيلي في غزة ولبنان امتدادا الى اليمن وايران جعل براغماتيته تنتج تراجعا في موقفه السياسي ومكانته داخليا وخارجيا ، وعلى الحركة الدينية العربية ان لا تلعب لعبته البراغماتية كي لا تفقد موقعها كما بدأ يفقده ، وعليها ان تجعل من اولويات اجندتها السياسية تعلو على اولوية "الطقوس" الشكلية ، فالدين المعاملة...ربما.