هذا اليوم استمعت لتصريحات وزير الدفاع الاسرائيلي غالانت والتي أدلى بها على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وكنت حريصا على الانصات جيدا له، وتبين لي ان الرجل منفصل عن الواقع ، فهو يقول انه لم يعد حزب الله قادر على التهديد ، وهو بدون قيادة بل لا يوجد من يتخذ فيه القرار ،وان عودة المستوطنين للشمال قريب...بينما كان المشهد الميداني يشير الى فشل ذريع لقواته في العبور ولو لامتار في جنوب لبنان، وضُربت حيفا بأكثر من مائة صاروخ ، وتعطلت الكهرباء في ثلاث مستوطنات ، وشاهدنا على شاشات التلفزيون دخان آلياته وهي تحترق، وتعطل مطار بن غوريون، وهنا نسأل هل كل هذا يجري دون "قيادة توجه المقاومة"؟
والحقيقة ان مزاعم غالانت ليست منفصلة عن ظاهرة تكرست طيلة المواجهة من 7 اكتوبر الماضي الى الآن ، وهي ان اسرائيل طيلة المواجهات الكبرى مع العرب كانت هي المنتصرة وبشكل لا يمكن انكاره، وهو ما لا يستدعي منها الكذب او التزوير في الاخبار، فالناجح لا يلوي اعناق حقيقة نجاحه، بل اعتاد المتلقي العربي على ان يميل لتصديق الاعلام الاسرائيلي لان الواقع كان مطابقا لما يقوله ذلك الاعلام، وشكل الاعلام العربي منذ ظاهرة احمد سعيد الى الآن تقريبا نموذجا للكذب والتزوير "الغبي" ، فقد تكذب ولكن بذكاء، لكن الاعلام العربي جمع بين الكذب والغباء في تلك الفترات، وما زال يعاني من بعض "فيروسات تلك الفترة".
لكن التحول الجديد في هذه المسالة من الجانب الاسرائيلي يظهر في ناحيتين :
1- ان اسرائيل عاجزة حتى الآن عن تحقيق نجاحات باهرة وجلية ، بل تواجه احيانا انتكاسات كثيرة، وهو ما اوقع اعلامها في نوع من الارتباك، فهو اعلام اعتاد نقل النصر لكنه لم يألف نقل العثرات ، ومن هنا جاء هذا الارتباك، وإلا كيف نفسر الظواهر التالية:
أ- التضارب الكبير في اعداد القتلى والجرحى من مصدر لآخر، وهو ما دَللتُ عليه في مقالات سابقة وبالأرقام الموثقة ، بل ان بعض المصادر الاسرائيلية ذات الشأن كان عدد القتلى في التقرير اللاحق أقل من عدد القتلى في التقرير السابق(كأن بعض القتلى عادوا للحياة)(يمكن العودة لمقالاتي الموثقة في هذا الشأن)، كما ان تقارير المستشفيات الاسرائيلية لا تتسق واعداد ما يعلنه الناطق الرسمي ، بل تتباين الاعداد من صحيفة لأخرى.
ب- منع وسائل الاعلام من نقل الاضرار المادية وتصويرها، وكل ما نراه ليس إلا جهود فردية او لقطة لصحفي من هنا او هناك، ولكن لا يُسمح لوسائل الاعلام ذات الشأن نقل ذلك، وقد اتضح ذلك في الضربة الايرانية الاخيرة لبعض القواعد التي انكرت اسرائيل حتى وصول الصواريخ لها ،ثم خرجت علينا واشنطن بوست ونيويورك تايمز و وول ستريت جورنال والبي بي سي لتحليلات خبراء لصور الاقمار الصناعية التي اكدت ان البون غير قليل بين ما قالته اسرائيل وبين ما جرى فعلا.
ت- رغم الاشارة لبعض الكتاب الاسرائيليين للتراجع الشديد في صورة اسرائيل في ذهن الراي العام العالمي، فان الجهات الرسمية(الحكومة والوزراء وقادة الامن والجيش) يتجنبون تناول هذا الأمر تماما كما لو أنه سر عسكري.
ث- التباين بين تقارير وسائل الاعلام الاسرائيلية ذاتها، فما تقوله هآرتس بعيد عن ما تقوله يديعوت احرنوت او معاريف او القناة 12 او 13، والتباين ليس في التنوع بل التباين في مضمون نفس الخبر عن نفس الواقعة، بل ان المماحكات بين الوزراء وبين قادة المعارضة وبين السياسي والعسكري تظهر في صحيفة وتنفيها اخرى.
2- كسر احتكار الخبر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فالإعلام العربي كان يقول ما يشاء لان القارئ العربي لم يكن يجد مصادر اخرى بخاصة في ظل احتكار الاعلام الرسمي للمشهد كله، وهو ما يجعل ميدان الكذب والتزوير براحا، اما الاعلام الاسرائيلي فلم يكن بحاجة للكذب سابقا ، فلا مبرر لان يكذب المنتصر، لكنه الآن ونظرا لافتقاده النصر الحاسم وتوالي المفاجآت عليه ، وجد نفسه دون عدة لإعلام " عدم النصر" على اقل تقدير، ومن هنا ظهر الارتباك عليه، وزاد المشهد ارباكا له ان وسائل التواصل الاجتماعي والصورة المسربة او المهربة او التي يمكن ان تُباع لوسائل كبرى بأثمان مغرية اصبحت بقدر يتعذر السيطرة عليها، ومن هنا زاد الارباك .
من الصعب القول ان اسرائيل هُزمت ، ولكن من المؤكد أنها لم تنتصر حتى الآن، ومن هنا كان اعلامها أعور هذه المرة، فهل يصبح أعمى؟ هذا ما يقرره مسار المعركة الدائرة ..ربما.