تزخر مكتبة العلوم السياسية بالدراسات الخاصة بنماذج قياس الكفاءة او الفاعلية السياسية للقيادات السياسية، ويتم تقسيم مؤشرات القياس الى بعدين هما :البعد الداخلي( وتتعلق بمستوى التعليم للقيادي او نمط تربيته عبر مراحل حياته ، ووظائفه التي شغلها، ووقائع ذات دلالة في حياته الشخصية(سلبية او ايجابية) او الشخصية الكارزمية ومدى نجاحه وفشله في اعماله...الخ) ثم البعد الخارجي ( بيئة صنع القرار في الدولة التي يقودها بخاصة القيود الدستورية على صلاحياته وطبيعة الفريق المركزي الذي يشاركه اتخاذ القرارات(هل هم إمعات او لهم شخصياتهم الفاعلة ) ثم طبيعة المشكلة التي يواجهها والقيود الاقليمية والدولية حولها...الخ).
سعيت للاستفادة من نماذج قياس الفاعلية السياسية ، وهي عديدة، لكني ازعم ان دراسة Besley, T. and M. Reynal-Querol (2011): “Do Democracies Select More Educated Leaders?”
المنشورة في American Political Science Review, No.105، والتي غطت دراسة 1400 قيادي ينتمون ل 197 دولة خلال الفترة بين 1848 الى 2004، تساعد في إدراك تعقيدات هذا الموضوع.
واستنادا لدراسة انجزتها قبل فترة تحت عنوان" الدراسات النفسية لشخصية بنيامين نيتنياهو عام 2021، أود التذكير بأبرز ملامح شخصيته في تلك الدراسة كمقدمة لما أود تناوله في هذا المقال، إذ تتسم شخصية نيتنياهو بالآتي(يمكن العودة للدراسة للتعرف على كيفية استخلاص هذه النتائج من خلال الوقائع المعاشة) :
أ- العدوانية الحادة
ب- النرجسية المفرطة
ت- الكذب
ث- الكراهية العميقة والمفرطة للعرب والمسلمين
ج- مستوى ذكائه فوق المتوسط
ح- التزمت الآيديولوجي .
ولو قدر لي ان أضع نموذجا لتقييم القادة الاسرائيليين خلال الفترة من 1948 الى الآن ، فأني اعتقد انه الاكثر فشلا بين ال 14 رئيس وزراء عرفتهم اسرائيل، ورغم ان رؤساء الوزراء ال13 الآخرين واجهوا مواقف لا تقل تعقيدا عما يواجهه نيتنياهو، إلا ان قياس مستوى نجاحة بالمقارنة مع الآخرين يجعله يقف في آخر القائمة، ويكفي ان نشير الى المؤشرات التالية:
1- مستوى التصدع في الجبهة الداخلية الاسرائيلية: لم تعرف اسرائيل خلافا واضحا ومعلنا ومتداولا شبه يومي بين فريق اتخاذ القرار كما هو الحال الآن، ولم تعرف اسرائيل تباعدا بين النخبة العسكرية والنخبة السياسية كما هو الآن، ورغم بعض التشنج في فترة ما بعد حرب 1973، إلا ان الامور بقيت في حدود المسيطر عليها بين اعضاء هيئة صنع القرار، ولم يصل الامر الى حد التواصل مع دول خارجية دون تنسيق او موافقة من رئيس الوزراء .
وفي جبهة نيتنياهو الداخلية شقاق في الموقف من القضاء، وشقاق حول الموقف من تجنيد الحريديم، وشقاق صامت حول الموقف من الحلول النهائية (حل الدولتين او غيره) ، ناهيك عن اتساع قاعدة المظاهرات وتشبثه بالسلطة رغم ان استطلاعات الرأي الاسرائيلية تجمع على تراجع واضح في شعبيته، ويكفي متابعة المقالات التي تنشرها الصحف الاسرائيلية وبخاصة "هآرتس" والتي تكشف عن ارتباك شديد في هيئة صنع القرار، ورغم ثقل الضوابط القانونية لكنه يحاول بكل ما في وسعه تجاوز هذه القواعد رغم فشله في ذلك ، فهناك جدال محتدم يكرره ضباط كبار عن ارتباك في إدارة ومسار المعركة في غزة ضد المقاومة، وفشل في استعادة الرهائن والتخلص من المقاومة في غزة، وعدم القدرة على استعادة الامن للمستوطنين في الشمال والجنوب من فلسطين المحتلة ، ناهيك عن الاعباء الاقتصادية المتزايدة يوميا ، والخسائر العسكرية والاستنزاف المتواصل لمواجهات هجمات محور المقاومة في أربع جبهات.
2- مستوى التصدع في الجبهة الخارجية: لم تكن العلاقات الأمريكية الاسرائيلية (بغض النظر عن تفاصيلها) بهذا القدر من التشنج المعلن والمتزايد، فهل كانت العلاقة بين امريكا واسرائيل في فترة اي رئيس وزراء سابق ضمن ال 13 الآخرين كما هي الآن؟ وهل كان من المتوقع ان تحتل الولايات المتحدة المرتبة الاولى عالميا في عدد المظاهرات ضد اسرائيل؟ بل إن رياح نيتنياهو لا تجري وفق اهواء سفنه مع الاتحاد الاوروبي، بل تزداد معاكسة لها ولو بهدوء ، وصورة اسرائيل عالميا لم تكن بهذا القدر من "التشكك والتساؤل " ، فحتى بريطانيا ترى ان "همجيته"لم تعد تُحتمل وفق وصف رئيس الوزراء البريطاني سوناك حين قال امس بان الوضع الانساني في غزة "مروع"، ناهيك عن ان اسرائيل تقف امام المحاكم الدولية الاهم عالميا(العدل والجنائية) بل وتزداد اعداد الدول التي تنضم الى رفع الدعوى عليها، وهناك من اعاد النظر بعلاقاته مع اسرائيل، ناهيك عن الهزائم المتكررة في الامم المتحدة.
وفي المستوى الاقليمي، فالى جانب جعل القضية الفلسطينية تعود لصدارة النشاط الدبلوماسي الدولي ،فقد جعل نيتنياهو التطبيع والمطبعين العرب في موقف لا يحسدون عليه، بل انه افسح المجال لإيران ومحور المقاومة لاحراج المطبعين بسبب مشاركتهم في الاعمال الحربية الى جانب المقاومة في غزة، ولعل قصفه للقنصلية الايرانية يمثل دليلا على نزق من يبحث عن اي انتصار يغذي نرجسيته ووهمه بالقدرة ، وكل محاولاته لجر امريكا لمواجهة مع ايران لم تُجدِ نفعا لان الطرفين يعلمان تمام العلم بخطته، وبأنه يريد لايران ان تصل الى ما وصله العراق دون ان يكلفه ذلك شيئا ذا قيمة، لكن لأمريكا اولويات دولية أخرى تعلو على رغبات نيتنياهو،كما ان الورطة في العراق لم تنته الى الامل المنشود، وايران تدرك بأنه يسعى لجرها لمواجهة مع الولايات المتحدة، لكن ايران تحسبها ببيض النمل على حد وصف لينين،وسترد على ضربات نيتنياهو لكن طبقا لما تراه في حدود ما يسمح به الواقع المحلي والدولي والاقليمي.
ان بقاء نيتنياهو متشبثا بالسلطة هو امر يسعدني للغاية، ولا اتمنى سقوطه ، ورغم الالم الشديد تجاه معاناة المدنيين في غزة بسبب العنف غير المسبوق ضدهم ، فان بقاء نيتنياهو هو امر يخدم الافق الاستراتيجي لمشروع الصراع العربي مع اسرائيل، بل أني ارى تشبث نيتنياهو بالسلطة كما لو انه اصابته عدوى الاستبداد العربي فاصبح هو الآخر "كرسويا"( A political chairology)، وهو أمر قد ينطوي على مخاطر كالتي جلبها الاستبداد العربي الى مجتمعاتنا..نعم انا أؤيد بقاء نيتنياهو..فهو بومة(OWL) اسرائيل المعاصرة.