لعل صلتي بالأدبيات السياسية الاسرائيلية تؤهلني لعقد المقارنة بين الخطاب السياسي الاسرائيلي الحالي والخاص بالحرب في غزة والضفة الغربية وبين الخطاب الاسرائيلي في الحروب العربية الاسرائيلية السابقة ، واكاد اجزم ان الخطاب السياسي الاسرائيلي الحالي يختلف بنسبة كبيرة عن مضامين ودلالات مفردات الخطاب والسياق(context) الذي ترد فيه هذه الجوانب، ويكفي التأمل في المظاهر التالية:
1- التوتر العالي في مفردات وسياقات الخطاب الاسرائيلي: لا يحتاج المراقب لفطنة غير عادية لملاحظة عدم اتزان الكثير من التصريحات الاسرائيلية، ويكفي التأمل في الامثلة التالية من الجمل التي وردت على لسان وزراء اسرائيليين :
أ- يجب مسح غزة بقنبلة نووية .
ب- عناصر حماس والفلسطينيين "وحوش بشرية".
ت- يجب سجن عناصر الارهاب في "انفاق ".
ث- هؤلاء هم نسخة من داعش.
ج- كيف تقاتلون من اجل السنوار.
ح- تبادل الاتهامات بين المسؤولين الاسرائيليين الحاليين وبينهم وبين القدامى(أولمرت ،باراك، هنغبي..الخ).
خ- غوتيرش شخص "غير اخلاقي" وعار على الامم المتحدة ان يقودها شخص مثله.
ان هذه المفردات او النصوص لا تدل إلا على غلبة اللاوعي على الوعي، وزلات اللسان كما قال فرويد ليست الا تعبير عن مكبوت كامن ، بل ان بعض هذه المفردات او التصريحات قادت لمشاجرات علنية وادت لتوقيف وزراء عن اداء مهامهم لفترة .
ومن الواضح ان كل هذه التصريحات تخفي قدرا من التباس ذهني نتج عن ثقة مفرطة في النفس من ناحية وعدم قدرة على تكرار تحقيق انتصار سريع وغير ملتبس كما كان الحال في السابق حتى في حرب اكتوبر 1973 من ناحية ثانية، فطبقا لعلم النفس فان الناجح دائما يكتئب اذا وقع في فشل، ونيتنياهو يعد ضمن القلة من رؤساء الوزراء الاسرائيليين الذين حكموا لفترات طويلة، فهو يقف الى جانب بن غوريون في طول مدة الحكم(حوالي 16 سنة) ، لكن نيتنياهو يعيش منذ فترة في سلسلة ازمات مترابطة ، فهو متهم بالفساد وتم استدعاؤه للتحقيق ولا زال الامر عالقا، ثم واجه شارعا يعارضه بقوه ضد تعديلاته القضائية ، ثم تم اتهامه بإخفاء وثائق ذات صلة بتقصيره وحكومته في توقع عملية طوفان الاقصى، ثم تُطل التباينات في مواقف اعضاء حكومته من هنا او هناك ، ناهيك عن حجم الخسائر البشرية والاقتصادية والنفسية من استمرار المعركة ،بل والنهش المتواصل من انصار الله اليمنيين وحزب الله ،الى جانب العجز عن التهجير وتزايد الاضطراب في الضفة الغربية ، وتهديدات اهالي الرهائن لدى المقاومة بل وشتمه على شاشات التلفزيون، ثم الضغوط الناتجة عن اتساع دائرة النقد للسياسات الاسرائيلية من دول اوروبية وافريقية واسيوية وامريكية لاتينية، بل ان بعض الدول التي كانت تساند اسرائيل صوتت ضدها او استدعت سفراءها من اسرائيل ، كما ان بعضها قدم مساعدات انسانية لغزة، وهو ما يتضح في التصويت في الامم المتحدة، فمشروع وقف اطلاق النار في البداية ايده في مجلس الامن خمس دول(16 اكتوبر) والمشروع الثاني(18 اكتوبر) ايده 12 ،والثالث (8 ديسمبر )ايده 13، اما في الجمعية العامة فقرار وقف اطلاق النار(26 اكتوبر) ايده في البداية 121(وليس 120 كما هو متداول) والقرار الثاني ( 12 ديسمبر ) ايدته 153 دولة، اي ان التأييد لوقف اطلاق النار يتزايد دوليا وهو ما دفع بايدن للشعور بالحرج الدبلوماسي والعزلة فقام ينتقد نيتنياهو وحكومته.
ان تواتر الازمات على نيتنياهو في ظل نرجسيته الحادة (يمكن العودة لدراستي عن شخصية نيتنياهو في موقع مركز الزيتونة) جعله مضطربا لان عليه ان يوفق بين " ثقته العالية في ذاته " وبين " النقد الشعبي والرسمي الاسرائيلي المتصاعد ضده والنقد الدولي له وكان آخره نقد بايدن.
2- التضارب في الخسائر البشرية في الجانب الاسرائيلي: ان المقارنة بين ما يعلنه الجيش (وهو غير متسق بين الحين والآخر)وبين ما تسربه وسائل الاعلام وبين ما تنشره تقارير المستشفيات وبين ما يقوله قادة عسكريين متقاعدين او سابقين وبين ما يجري تداوله في مواقع وسائل التواصل الاجتماعي بخاصة منها حسابات شخصيات مرموقة في المجتمع الاسرائيلي...الخ فيها ارقام متضاربة مما يعزز صورة الارتباك والقلق لدى صانع القرار.
لقد خلقت هذه التباينات ارباكا وشعورا بقدر من الفوضى وخلقت قلقا متزايدا لدى الجمهور الاسرائيلي بشكل بدأ ينعكس على ردات فعل مسئولين اسرائيليين بتصريحات غير منضبطة،ومن يتتبع المقالات في صحيفة هارتس ويديعوت احرنوت وبعض المواقع الاسرائيلية باللغة الانجليزية يجد ذلك واضحا.
3- للمرة الاولى تقوم اسرائيل بنشر افلام فيها تقليد واضح للأفلام الوثائقية التي تبثها المقاومة، فعادة اسرائيل تبث افلام عن تحركات القوات او عن صور معتقلين او اسرى، لكن ليس في تقاليد الاعلام الحربي الاسرائيلي نشر افلام كالتي بدأت تظهر في الايام الاخيرة والتي لم تكن موفقة في ايصال الرسالة المقصودة، وقد قمت بترجمة على غوغل لتعليق لاحد اليهود بالعبرية على الفيلم الاسرائيلي حيث يقول التعليق" ان تقلدوا هوليود وتفشلوا امر يمكن فهمه، لكن ان تقلدوا حماس وتفشلوا فهذا امر سخيف".
وهذا يعني ان افلام المقاومة عن عملياتها بدأت تجد صدى ومتابعة من الجمهور الاسرائيلي ،وبدأت تترك اثارا نفسية على المتلقي الاسرائيلي ، وهو امر بدأ يرفع من وتيرة التوتر لدى صانع القرار، فراح يفرغ مكبوتاته دون انضباط.
4- لغة الجسد : في تقرير لاحد خبراء علم النفس يشير من متابعته للغة الجسد لنيتنياهو الى ما يلي:
أ- تشير لغة جسد نتنياهو إلى أنه يقرأ من نص امامه لكنه غير ظاهر للمتفرج ، حيث تتوافق حركات جسده مع الكلمات التي يتحدث بها، مما يدل على افتقاره إلى العفوية والتلقائية والتخوف من "زلات اللسان" التي تكشف الواقع الحقيقي.
ب- التناقض بين حجم ما يقوله نيتنياهو عن مخاطر الطائرات بدون طيار او الصواريخ التي تطلق على اسرائيل وبين نسبة ما يقوله الناطق العسكري عن نجاح القبة الحديدية في الاعتراض يعزز الشواش الذهني للمتلقي الاسرائيلي فتزداد عدم الثقة في نيتنياهو.
ت- لغة جسد نتنياهو تفتقر إلى القوة الحازمة ولا تتناسب مع حدة كلماته، مما يثير تساؤلات حول نواياه الحقيقية.
ث- ينظر نيتنياهو بين الحين والآخر خلال الخطاب الى اسفل مما يشير الى الاستعداد " لمداراة ضغوط اللاوعي عليه".
لماذا كل هذا؟ لا نتعجل الإجابة ، فهذا مظهر واحد من معركة واسعة سياسيا وعسكريا واجتماعيا واعلاميا واقتصاديا، فالحكم على بعد واحد لا يفي بمتطلبات اصدار الحكم، لكن معرفته ضرورية.