لم يستقر في الذاكرة الجمعية العربية نموذجا تاريخيا كما استقر مفهوم البطولة وما ينطوي عليه من رمزية، ولعل التمجيد الذي يحيط بهذا النموذج هو ما يتم استحضاره كلما واجه الجمع العربي خطر داهم ، كما يتم جَزْرُ المفهوم من مستواه الجمعي الى مستواه الفردي فتتكثف دلالات نموذج البطولة في رمز لها ، ويبقى ذلك الرمز منتظرا الدعوة لاستحضاره كلما أطل الخطر من هنا او هناك...إنها ثقافة القلب، وغالبا ما يتم استحضاره بالشعر والغناء والصورة والخطب ...الخ.
لكن التطور الانساني عبر التاريخ يسير خطيا نحو ثقافة العقل ، أي اكتشاف أفكار وأدوات ومناهج تفكير جديدة، ويكون لها الدور الاول في تطويع أية معاندة شاخصة في المواجهة، فالبطولة بمفهومها المعاصر هي القدرة على تحدي نمط تفكيرك ومناهجه القديمة لتحيل أدواتك وإداراتك الى مستوى من الصلابة تجعل الخصم مضطر للانكفاء او على اقل تقدير القبول بالمساومة معك.
لقد اشرت في مقال سابق الى ما يجري في المختبرات الغربية وقدمت أمثلة تطبيقية كثيرة عليها، وأغلب هذه التطورات قابلة لتحويلها من يد الطبيب او المهندس او العالم النفسي وغيرهم الى يد المقاتل ، فهو يعالجك بالنووي ويقتلك بالنووي، ويعالجك بالعقاقير الطبية ويقتلك بالكيماوي ويعالج فيروساتك وقد يعيدها لك في اليوم التالي، ولا يرى اي فاصل بين العلاج والسلاح .
لعل ما جرى من تفخيخ لأجهزة الاتصال في المقاومة اللبنانية ، او زرع اجهزة تنصت او تصوير او استشعار هو مؤشر على المعنى الجديد للبطولة العقلية التي تتجاوز الإيحاء الاخلاقي التقليدي، فكثيرا مما يُكتب حاليا من انصار المقاومة ينطوي على اوصاف" كالغدر والخسة والنذالة...وغيرها" التي تمارسها اسرائيل، اي كأننا نريد ادارة الصراع للعودة الى قاعدة " هل من مُبارز ؟" او اننا كنا ننتظر من اسرائيل أن تدير الصراع بأخلاقيات "الفرسان"، ونسينا أن الحرب خدعة ولا يصنع الخدعة إلا العقل, وكما قال مولتكة( قائد جيوش بيسمارك) كنت اتوقع ان يأتيني العدو من إحدى الجهات الأربع..ولكنه كثيرا ما جاء من الجهة الخامسة".
ان الرد على ما جرى هو في إعمال ثقافة العقل في التخطيط والاداة والإدارة والتنفيذ، وعلينا تجاوز ما نوظفه في الصراع باتجاه طرائق جديدة وتطورية ، لقد ابلغنا العالم البيولوجي الروسي نيفاخ(A.Neyfakh) ان كل ما تخيله الانسان قابل للتحقق، وأن كثيرا مما كنا نعتقده خيالا تحقق...وهو ما يعني ان توظيف الخيال في كل مناحي الحياة أمر ضروري ومن ضمنها إدارة الصراع، فلو قال احدهم ان من الممكن تفخيخ تنظيم سياسي سيبدو الامر خيالا، ولكن اسرائيل طرحت السؤال وهو: كيف يمكن تفخيخ تنظيم سياسي ..ووصلت بالتكنولوجيا للإجابة، وفي القادم سيفكرون في:
- كيف يمكن ان نقتلهم عطشا
- كيف يمكن ان نمنع توالدهم
- كيف يمكن ان اعطل قدرتهم على الرؤيا
- كيف يمكن تعطيل قدراتهم العقلية
- كيف يمكن ان اخترع قنبلة لا تقتل الا من أريد قتله
- كيف يمكن ان اجعل جسدك يكشف لي اسرارك
اعود واذكر ان ما نشرته قبل ايام قليلة عن ما يجري في مختبراتهم يشير الى انهم يعملون على تأكيد صحة نظرية العالم الامريكي الموسوعي باكمنستر فولر(Buckminister Fuller) وهي نظرية (الشيء من اللاشيء)(Ephemeralization) والتي تقوم على اننا كنا نصنع بعض الاشياء من كمية كبيرة من المواد ، ثم اصبحنا نصنع نفس الشيء وبمستوى اعلى ولكن بمواد اقل، ثم نعود ونطور ذلك الشيء أكثر وبمواد اقل مرة اخرى، فهل سنصل الى اننا سنصل الى صناعة متطورة للشيء دون استخدام اية مواد"..هذا هو المنهج والعقل الذي يديرون به الصراع.
ماذا يعني ذلك؟
ليست دعوة مني للتخلي عن البطولة، ولكن لا بد من التخلي عن تغليب بطولة القلب على بطولة العقل ، أي ان نقلب المعادلة فتكون بطولة العقل اولا ترافقها كتابع لها بطولة القلب لا العكس، إن التمعن في فكرة حرب العصابات هي دليل على بطولة العقل التي وَظفت لصالحها بطولة القلب، فصلب نظرية حروب العصابات هي : كيف ندير الحرب بطريقة تجعل قيمة موازين القوى اقل اهمية؟ لا نلغي ميزان القوى ولكن نجعله اقل تاثيرا..ونجحت الفكرة في اغلب حالاتها،،تكاتفت" تكنولوجيا بطولة العقل في حرب العصابات مع ثقافة بطولة القلب" فكان النصر.
لذلك ، لا بد لكل حركة مقاومة من "هيئة متخصصة للخيال العلمي والتفكير خارج صناديق البطولة القلبية، لا نكسر صندوق تلك البطولة بل نفكر خارجها....ربما .