ثمة فروق هامة ولها تعقيداتها بين انماط التفاوض ،فهناك أولا التفاوض المباشر بين طرفي نزاع(Dispute)(مشكلة يجري البحث في تسويتها بطرق سلمية) او طرفي صراع(Conflict)(مشكلة يجري تسويتها بطرق خشنة) وهناك ثانيا تفاوض غير مباشر بين طرفي نزاع او صراع، والتفاوض غير المباشر يتم بين قوى لا "تعترف بشرعية بعضها ،او لا علاقات دبلوماسية معها، او قوى احيانا ما دون الدولة او ما فوق الدولة" .
وتمثل الوساطة (خلافا للتحكيم او التقاضي او المساعي الحميدة..الخ) منهجية لتسوية النزاعات او الصراعات في العلاقات الدولية ،وتكون مهمة الوسيط نقل وجهات النظر بين الطرفين بخاصة في حالة التفاوض غير المباشر (بحكم انكار الطرفين للعلاقة الرسمية بينهما)، ولكن الشرط الرئيسي للطرف الوسيط ان يكون نزيها ومقبولا من الطرفين ،وله ان يقدم اقتراحات وينقل وجهات النظر بأمانة.
وعند النظر في سلسلة المفاوضات بين المقاومة واسرائيل خلال معركة طوفان الاقصى يجب التنبه لما يلي:
1- أن لجنة التفاوض تضم الولايات المتحدة واسرائيل(وهما عدوان للمقاومة لا وسيطان) ومصر (التي تتقاضى من الفرد الغزي الذي يريد الخروج لأي سبب عدة آلاف من الدولارات في الوقت الذي لا يجد فيه هذا الشخص الماء ولا الغذاء ولا الدواء وفي الوقت الذي يؤكد ابرز خبراء القانون الدولي من المصريين ان معبر رفح هو معبر فلسطيني مصري فقط،ومع ذلك يجري ابتزاز الفلسطينيين بهذا الشكل القاسي للغاية ، ولسنا بحاجة للتأكيد على ان مصر الرسمية لا تنظر الى المقاومة الفلسطينية كحركة تحرر بل كأمتداد تنظيمي للإخوان المسلمين التي يناهضها النظام (واغلب الانظمة العربية ) العداء، ثم هناك طرف رابع وهو دولة قطر ، وهي قاعدة دبلوماسية الإنابة(Proxy Diplomacy ) الامريكية ، فكلما ارادت الولايات المتحدة التواصل مع طرف لا تقيم معه علاقة ،او تصنفه تصنيفا سلبيا ،تدفع قطر لتنوب عن الدبلوماسية الامريكية في هذا التواصل، وهو ما عبر عنه حمد بن جاسم بشكل صريح في شريط موجود على الانترنت حيث يقول" نحن مقاولون من الباطن . تأتينا المطالب من الغرب ..ونحن ننفذ"( ولعل هذا هو ما جرى من تواصل قطري مع ايران وحزب الله وطالبان وحركات المقاومة الفلسطينية واليمن وتشاد وباكستان وليبيا وصولا الى فنزويلا والسودان وافريقيا الوسطى ومع جيبوتي واريتريا والصومال وكينيا...الخ)، ولكن الوسيط يجب ان يتمتع بعلاقة مقبولة من طرفي الخصومة، وهنا تستثمر قطر " ذهب المُعز" للتقارب بخاصة مع خصوم الولايات المتحدة، وهو ما يفسر دعمها المالي للفصائل الاسلامية في فلسطين (وسابقا في لبنان وسوريا وغيرها)، ومقابل هذا التوكيل الامريكي لقطر تقوم الولايات المتحدة بحماية قطر من خلال نقل اهم قاعدة عسكرية لأمريكا في الشرق الاوسط الى قطر بخاصة عندما تم استشعار النزوع السعودي لتقزيم دور الوكيل القطري.
ذلك يعني أن المفاوضات تدور مع طرفين عدوين صراحة ، وطرفين آخرين " احدهما لا يريد لهذه المقاومة ان تنتصر لكي لا يتعزز النموذج الديني المقاوم(وتلتقي بذلك مع كل من اسرائيل وامريكا) والطرف القطري الذي يمثل القفاز الناعم للولايات المتحدة، والذي لا يستطيع رفض المطالب الامريكية لكنه ينقلها ويحاول اقناع الطرف الفلسطيني بقبولها شاهرا" طبق ذهب المُعز".
2- ما سبق يعني أن هناك خلل فاضح في بنية لجنة الوساطة، وهو ما يستوجب اشراك اطراف اخرى للمشاركة في التفاوض سواء كممثل للأمين العام للأمم المتحدة غوتيرش(والذي اتضحت شخصيته المستقلة)، او من الصين(التي قدمت نموذجا في التقريب بين ايران والسعودية من ناحية ،كما انها تسعى لتعزيز صورتها السلمية في العالم ولضمان هدوء المنطقة ليسير مشروعها في المنطقة(الحزام والطريق) بيسر لا سيما مع بروز المشروع الهندي المنافس له(الممر الاقتصادي الاوروبي الهندي)، او يمكن لدولة مثل جنوب افريقيا او حتى تركيا (الأكثر استقلالية في أدوارها من قطر او مصر) ان تساهم في ذلك..اي ان الخيارات متعددة لإشراك طرف جديد او طرفين للانضمام للجنة، وهذا الطرف يمكن ان يخفف من انحياز اللجنة للطرف الاسرائيلي سواء بدوافع انسانية(كممثل غوتيرش او مندوب جنوب افريقيا ) او لدوافع إفساد او تعطيل المشاريع الامريكية من منطلق الخصومة(كالصين)، وفي كلٍ خير.
3- على المقاومة ان تدرك بعمق- وأظنها كذلك- ان العلاقات القطرية الاسرائيلية هي اعمق واخطر مهما حاولت قناة الجزيرة " زخرفته"، فالزيارات الرسمية الاسرائيلية للدوحة لم تنقطع منذ 1995 عندما شارك الوزير القطري احمد الكواري في جنازة اسحق رابين ثم زيارة شيمون بيريز التي شملت زيارة قناة الجزيرة عام 1996 وضمان ظهور الاعلاميين الاسرائيليين على شاشاتها ناهيك عن مكتب التمثيل التجاري الذي وإن اعلن عن اغلاقه بعد عام 2008 ، إلا انه ما زال الاسرائيليون قادرين على الدخول للدوحة بجوازاتهم الاسرائيلية ناهيك عن استمرار مكتب لوزارة الخارجية الاسرائيلية في الدوحة حتى هذه اللحظة ، والموساد أقامت مقرا لها في الدوحة طيلة الشهرين الماضيين ، وخلال الاولمبياد الاخير كان الجمهور الاسرائيلي يملأ المدرجات الرياضية في الدوحة .
4- ان التناقض الذي تمت الاشارة له في بعض الوسائط الاعلامية بين مصر وقطر هو نتيجة التباين بينهما في الموقف من الاخوان المسلمين وانعكاس ذلك من خلال قرب قطر من الاخوان( لغرض في نفس امريكا) ورغبة القيادة المصرية في استبعاد اي عامل يعزز صورة الاخوان في مصر او حولها.
ان سوء النية والشك أمران لا بد من التسلح بهما في العمل السياسي ، فمن مأمنه يؤتى الحَذِر.