في الموت بعدان مستقبليان ..الاول يقين وقوعه في المستقبل القريب او البعيد ، وثانيهما ظنون زمن الوقوع الآن او في غد مفتوح ، وفي الموت ثنائية أخرى هي ثنائية الجسد والروح ، وهنا ينقسم الفلاسفة والاديان والعلمانيون في النظرة حولهما، فان كان افلاطون اكد ثنائيتهما وان الفناء يصيب الجسد بينما الروح ابدية، فان ابيقور رأى انهما وحدة واحدة ،فان جاء الموت لا اكون ،اما اذا كنت فالموت غائب، ومن هنا سخر ابيقور من الخوف من الموت ،فكيف اخاف من قادم لا اكون حين حضوره ولا يحضر وانا كائن ، وفي الادبيات الاسلامية فان الجسد ذاهب يقينا للموت(كل نفس ذائقة الموت) ، اما الروح فهي "من امر ربي"..
استعدت هذه الافكار وأنا أرى اخبار الموت في غزة ، بدأ الموت وكأنه مفاجأة، ثم تزايد،واعتاد الناس على اخباره وتزايدت الاعداد من العشرات الى المئات الى الآلاف ثم اصبحنا في مرحلة عشرات الآلاف..قتلوا الرضيع والطفل والمرأة والرجل..ثم قتلوا ابناء القائد في لحظةٍ تكرس "بعض " الاعلام النفطي للزعم انهم في مكان يشابه بيت ابي نواس..
لكن ما شغلني أكثر هو بناء فهم معرفي لرد فعل الأب القائد الذي واجه اغتيال رهط من ابنائه واحفاده ،سقطوا في ميدان المعركة ،وهو بعيد عنهم حيث هو في ميدان التفاوض المُر حيث" وسوى الروم خلف ظهرك رومُ" ، فاستعدت من اوراقي ما درسته لطلابي في علم النفس السياسي بخاصة حول الموت لعله يساعدني على فهم رد فعل هذا الاب على هذا الحدث الجلل.فرايت ان اعرض النظرية ثم اسقطها على رد فعل قائد فقد ابناءه واحفاده .
لقد انشغل علماء النفس كثيرا بدراسة "سيكولوجية الموت"، فالفرد-أيا كان- يدرك يقينا انه سيموت، ولكنه مسكون برغبة جامحة للبقاء حيا ، ومن هنا تتجلى نظرية عدم الاتساق المعرفي(Cognitive dissonance) ، فانت مقتنع عقليا بأنك ستموت، ولكنك سيكولوجيا لا تريد ان تموت ، فكيف حل الانسان هذه العقدة بين ثنائية القبول العقلي للموت والانكار السيكولوجي-الرغبوي - له ؟
لقد انقسمت المعرفة في هذا الجانبان الى القسمين المشار لهما، قسم خلود الروح وفناء الجسد وقسم آخر لا يرى خلودا لأيهما..أي ان هناك من نظر للأمر على اساس مستقبل مفتوح (وهو الاكثر انتشارا بين الروحانيين من أديان وغيرها) بينما يرى الطرف الآخر ان ليس امامه الا مستقبل موصدة ابوابه بحكم الفناء التام والابدي. وتكاد ان تكون نظرية العالم السويسري "جان بياجيه" حول مراحل فكرة الموت منذ الطفولة هي ضمن المحاولات المبكره لتفسير كيف تتبلور الفكرة حول الموت،بدءا من تساؤل الطفل اين فلان والاستماع الى جواب غامض الا وهو "مات" ، وهذه هي المرحلة الحسية الحركية(sensorimotor)، لكن فهم الموت يتكثف تدريجيا بالوعي المتنامي، ويصل اقصاه عند التعرض للخطر (كالمقاتل) فهو هنا يواجه الموت مرتين :فهو يواجه الموت بالموت، فيقتل خصمه ليطمئن على ذاته، وهنا تتجلى النظرية الاكثر رواجا حول الموت وهي نظرية إدارة الرعب (Terror Management Theory.) التي تقوم على محاولة الطمأنة من خلال الذوبان في الجموع( الاسرة /القبيلة /الجيش/الامة..الخ)، فالموت هنا يتحول كما في المثل الشعبي العربي "الموت مع الجماعة رحمة"..فالعزلة الفردية تجعل الموت شاخصا مستفردا بك لوحدك، لكنه يتشظى عندما تذوب في الجمع، وهو ما يمنحك-طبقا لهذه النظرية- "الخلود الرمزي"، وهو ما جعل صاحب النظرية(Tomer) يؤكد بالبحث الميداني ان الاضطراب خوفا من الموت اقل كثيرا عند المندمجين في الجموع وجدانا وعقلا، بينما هو اعلى كثيرا عند المنزوين في زوايا الحياة الضيقة الفردية او محدودة الانخراط في الهم العام. وعليه فان انغماس الأب في جموع شعبه في غزة ،وذوبانه في ملابسات حياتهم وموتهم جعل مشهد ابنائه الضحايا ضمن المشهد العام ،ومن هنا نفهم ما قاله" ابنائي مثل شهدائنا الآخرين"،انه الذوبان الوجداني والعقلي بين القائد وجموعه ،ومن هنا تهون الفاجعة.
أما فرويد فقد عالج هذا الصراع الكامن في النفس البشرية من خلال الصراع بين غريزة الحياة(Eros) وغريزة الموت(Thanatos) بتحويل الموت نحو الآخر او بتحايل نفسي بأن الموت لا يعني المرحلة الاخيرة فهناك حياة أخرى،وهو ما يجعل الفرد في الحالتين اكثر اتساقا، وعليه فالقائد الغزي توازن في رده لانه حول الموت الى خصومه ،وكان احد مشاهد ذلك قبل سويعات يعرض على شاشات التلفزيون لملحمة حي الزنة وحي الامل في خان يونس، وازداد الاطمئنان لانه على يقين مطلق بحكم عقيدته ان هناك حياة أخرى ولقاء قادم ،فالمستقبل من منظوره مفتوح لاعادة اللقاء بمن فقد من الابناء والاحفاد.
اما الباحثة الامريكية كوبلر روس Kubler-Ross) ) التي طبقت نظريتها على المصابين بمرض يرجح الاطباء انه مميت، فوجدت ان اغلب المرضى يمرون بمراحل خمس هي: الانكار-الغضب-المساومة-الاكتئاب-القبول، لكن الثوار يمرون بتطبيق ايجابي للمراحل الخمس، فهم يرون الثورة "علاجا" لا مرضا، وانكارهم موجه لإنكار واقع الاحتلال او الهيمنة، وغضبهم موجه الى الآخر المسؤول عن المعادل السلبي للمرض وهو الاستعمار او الاستبداد او الاحتلال، أما المساومة فهو يمارسها في التفاوض حاملا حقه لينتزعه متكئا على بنادق جنده هناك في غزة ، فإن اصابه اكتئاب –المرحلة الرابعة- فهو من "ذوي القربى" ، وممن لم يجرؤ على ان يواسيه ببرقية تعزية، وممن اطلق العنان لإعلامه لترويج الاراجيف حول "حياته وحياة نسله الوادعة" ، لقد ترحم بعض ذوي القربى على رابين وبيريز وغيرهم من علوج صهيون..لكنهم رأوا ان المقام في غزة لا "يليق " بهيباتهم..كل ذلك يستدعي منه بلوغ المرحلة الخامسة في نظرية كوبلر-روس وهو القبول منه ثم من زوجته ..فرفعا معا اشارة النصر ،،اليس ذلك ابهى دلالات القبول…ربما.