إذا قبلنا بتعريف ميزان القوى في الصراع الدولي بأنه مجموع ما يمتلكه كل طرف من متغيرات مادية ومعنوية ومدى الابداع في إدارة هذه المتغيرات لتحقيق أكبر قدر من المكاسب أو اقل قدر من الخسائر، فإن ما جرى في غزة يشير الى أن المتغيرات المادية المجردة هي لصالح اسرائيل وبنسبة فارق عالٍ للغاية، أما الجانب المعنوي فيكفي الاشارة الى ان حجم الخسارة البشرية بين الفلسطينيين في غزة قياسا لعدد السكان(2,3 مليون فلسطيني مقابل 7.3 مليون اسرائيلي) يعادل 4.2 ضعف الخسائر الاسرائيلية، فإذا اضفنا لذلك حجم الخسائر المادية المباشرة(منازل وبنية تحتية) والخسائر الاقتصادية(توقف العمل والنزوح وغيرها ) فان الخسائر الفلسطينية تعادل 3.9% اضعاف الخسارة الاسرائيلية، رغم ذلك فان الاعلام الغربي لم يسجل اي مظاهرة احتجاج بين الفلسطينيين من سكان غزة ضد المقاومة ، بينما الاحتجاجات في اسرائيل بخاصة من اهالي الرهائن لم تتوقف علما ان عدد المعتقلين الفلسطينيين يعادل حوالي 25 ضعف عدد الاسرى والرهائن الاسرائيليين، وتفسير ذلك هو في الفارق بين مجتمع " المشروع ومجتمع " الوطن " فإسرائيل مشروع وليست وطنا.
أما إدارة المعركة ، فيمكن التوقف عند مؤشر الاهداف المعلنة، ورغم أن المعركة لم تنته بعد، فان الاهداف التي حددتها اسرائيل بدأت بالتهجير الى غزة ، والقضاء على حماس ونزع سلاحها مع خلافات حول من يتولى إدارة غزة بعد انتهاء المعركة، ونلاحظ أن التهجير لم يلغ لكن طرحه توقف، وتفريغ شمال غزة يشير الى بقاء اعداد كبيرة من الفلسطينيين في شمال القطاع بل وبدأ البعض منهم يعود للشمال مع بدء الهدنة، واعتقد ان التغير في الاهداف والتعديل المستمر فيها هو مؤشر على خلل في ادارة الصراع.
ولو نظرنا في التحالفات للطرفين، سنجد ان الموقف الدولي يعتريه بعض التغير حتى في الادارة الامريكية (التي اعلنت رفض التهجير ورفض العودة لاحتلال غزة والضغط لمزيد من الانضباط تجاه المدنيين) ناهيك عن بدء تغير في توجهات فرنسا وبلجيكا وغيرهما ، الى جانب الصورة المشوهة لإسرائيل التي استقرت في الوجدان العالمي طبقا لكل استطلاعات الرأي وهو ما يقر به الكتاب الاسرائيليون، بينما هناك درجة من الرضا لأطراف محور المقاومة –وإن تباينت- عن أداء اطراف هذا المحور،وبخاصة تزايد ذلك في الايام القليلة الماضية.
ماذا يترتب على الصورة السابقة:
1- احتمال تمديد الهدنة ، وتبرير ذلك بأن اسرائيل ستستمر في التمديد على اساس الاستمرار في الافراج عن الرهائن بنسبة معينة، ففي الايام الاربعة الاولي سيتم الافراج فيها عن 50 رهينة لدى المقاومة، وقد يتم التمديد على اساس الافراج عن 5 او عشرة من بقية الرهائن مقابل كل يوم تمديد، وهو ما يعني استمرار التمديد الى حين نفاد الرهائن المدنيين، فاذا افترضنا بعد الايام الاربعة بقي لدى المقاومة مائة رهينة مدنية(أحياء او جثث) وتم الاتفاق على الافراج عن عشرة يوميا ،مقابل ادخال المساعدات وزيادة الافراج عن معتقلين فلسطينيين فان الهدنة ستتمدد الى عشرة ايام على اقل تقدير.
2- ان اسرائيل ستحاول البقاء في بعض مواقع شمال غزة وحول بعض الاماكن الهامة، على امل ان يؤدي الضغط للانتقال من اطلاق سراح الرهائن المدنيين الى الاسرى العسكريين،ومحاولة استغلال وجودها في هذه المواقع لإجبار المقاومة على اطلاق سراح العسكريين، وهنا ستجد المقاومة نفسها امام مسألتين هما إما المطالبة ب" تبييض السجون من الاسرى الفلسطينيين" مقابل كل الاسرى الاسرائيليين العسكريين ، او تقليص عدد الاسرى الفلسطينيين الذي يطلق سراحهم مقابل انسحاب اسرائيل خارج القطاع ، وهو امر قد يطول لان الاستجابة لذلك لن تكون هينة او سريعة،كما انه سيضع المقاومة في موقف حرج للغاية في ظل وعودها السابقة بتبييض السجون الاسرائيلية.
3- ان الفشل في تحقيق اي من الاحتمالين السابقين ،او وقوع احداث غير متوقعة يترتب عليها تبادل الاتهامات بين الطرفين حول مدى الالتزام بشروط الهدنة مما قد يفجر الموقف وتعود المواجهة بينهما.
4- احتمال تحولات اقليمية مثل أن يستمر الضغط العربي على المقاومة الفلسطينية بهدف منع حماس من تحقيق اي شكل من اشكال الانتصارات ، فنموذج المقاومة الاسلامية المسلحة يمثل حالة تسعى الدول العربية في معظمها وبخاصة دول التطبيع الى خنقه لأنها تراه مصدر تهديد لها ، وهو ما يمكن ان يشكل زيادة في الخلل المادي ثم المعنوي لجبهة المقاومة،وهو ما سيشجع اسرائيل على استئناف العمليات العسكرية رغم هواجس الارتفاع بشك دراماتيكي لحجم الخسائر البشرية في قواتها.
وثمة احتمال اقليمي آخر وهو أن تعود دورة الصراع في غزة ولكن بوطأة اكبر ،مما قد يضع محور المقاومة أمام خيارات احلاهما مر،إما ان يفقد المحور الثقة فيه او ان ينخرط في الصراع بكل ما يترتب على ذلك من تداعيات.
5- سيجد طرفا الصراع ان المجتمع الدولي لن ينظر بعطف تجاه من يستأنف القتال، لذلك قد تقع احدث ملتبسة يتمكن كل طرف من خلالها اتهام الطرف الآخر بالتسبب في ذلك، واعتقد ان اسرائيل قد تفتعل حادثا غامضا لتبرر استئناف القتال اذا وجدت مصلحة في ذلك،ومن المفترض ان تبدأ المقاومة من الآن التمهيد لذلك وتهيئة الراي العام الدولي لهذا الاحتمال.
6- صياغة بنود الاتفاقات اللاحقة: من الضروري التوقف في صياغة اي اتفاق عند مفرداته بمنتهى الدقة، فتعبيرات مثل "عدد من الشاحنات "(شاحنتين عدد والف شاحنة عدد)، او شاحنة(بعضها يستطيع حمل طن واحد وبعضها عشرة اطنان"، وغيرها كثير من المفردات. كما ان على المقاومة ان لا تفرج عن الاسرى من الضباط إلا في آخر مرحلة ، وان ترفع مستوى مطالبها طبقا للرتبة، ثم لا بد من توزيع الاسرى على بعض التنظيمات والتذرع بانهم اسروهم في 7 اكتوبر، ثم يمكن قتل بعض الاسرى والتذرع بانهم ماتوا في المعارك او قتلهم القصف الاسرائيلي لبعض المنشآت والتفاوض على جثثهم ،وسبق لإسرائيل أن فاوضت مرات عديدة على الجثث كما تفاوض على الاحياء.
أخيرا، لا بد من أن تتسلح المقاومة بأقصى درجات سوء النية مع عدوها، وأن لا تمرر في الاتفاقيات اي مفردة الا بعد التدقيق فيها حتى لا يتكرر سيناريو اوسلو التي أدارها فريق "هبنقة"، فهل من مستمع..ربما.