تتمحور النظرية الماركسية حول فكرة الثروة وتحديدا "عدالة توزيعها" ، ويبلغ عدد الدول التي ينفرد في حكمها حزب شيوعي حاليا اربع دول هي: الصين وفييتنام وكوبا ولاوس ويمكن اضافة كوريا الشمالية رغم التغيير في وثائقها الدستورية او التنظيمية في أعوام 1992 و 2009 واخيرا 2021، أما الدول التي يتزعم حكوماتها حزب شيوعي ضمن إئتلاف حزبي فهي (مولدوفا ونيبال ) ويمكن اضافة كلا من فنزويلا والبيرو( رغم بعض التفاصيل في غير هذا الاتجاه).
ذلك يعني أن هناك حوالي عشر دول ما تزال " تتبنى الماركسية"، لكن التمعن في مدى تطبيق الفكرة المركزية للماركسية( عدالة توزيع الثروة) في هذه الدول يشير الى تحولات باتجاه معاكس تماما للقيمة العليا في الماركسية، ويكفي الاشارة الى المؤشرات التالية:
أ- طبقا لمؤشر غيني(Gini Index) لا تتصدر هذه الدول قائمة الاكثر عدالة في توزيع الثروة ،بل انها تأتي في مراتب متأخرة قياسا للدول الرأسمالية ، ويكفي المقارنة الرقمية التالية: ) ملاحظة: كلما كان الرقم أقل تكون عدالة التوزيع افضل).
الدولة – مؤشر غيني
الصين: 46.7
فييتنام: 35
كوبا: 46
لاوس: 38.8
كوريا الشمالية:32
ذلك يعني أن المعدل لعدالة توزيع الثروة في هذه الدول هو : 39.7
لكن مقارنة عدالة التوزيع مع المراكز الرأسمالية تشير الى :
الولايات المتحدة 39.8
بريطانيا: 32.4
فرنسا: 31.5
المانيا: 31.7
اليابان: 32.9
ذلك يعني ان معدل مؤشر غيني في المركز الرأسمالي هو 33.6، أي انه افضل من الدول "التي يحكمها الماركسيون"، مما يعني ان عدالة التوزيع للثروة بقيت في اطار التنظير المعياري لكنها لا تجد لها أثرا في الميدان.
ب- المؤشر الآخر هو تزايد ما يسمونه في الصين " الأمراء الحُمْر"، اي القطط السمان ، فلو حسبنا نسبة التزايد في عدد من يملكون مليون دولار فاكثر خلال العشرية الماضية ، فان النتائج تشير لما يلي:
1- اعلى نسبة زيادة في عدد المليونيرية(مليون دولار فاكثر ) كانت في فيتنام( بلاد هوشي منه وجياب) وبزيادة خلال العشر سنوات الماضية بنسبة 98%، تليها الصين(بلاد ماوتسي تونغ) بنسبة 92%.
2- تراجعت نسبة المليونيرية في اليابان 6% خلال نفس الفترة(2013-2023) وفي بريطانيا 8%
3- عند مقارنة نسبة الزيادة في المليونيرية في بعض من دول المركز الراسمالي نجد ان الزيادة اقل من النسبة مقارنة مع الصين وفييتنام، فهي في الولايات المتحدة 62%، وفي المانيا 15% وفي فرنسا 14%
ذلك يعني ان القطط السمان في المجتمع ال"الماركسي" تتزايد بوتيرة ومعدلات اكثر من تناميها في المركز الرأسمالي.
ماذا يعني ذلك:
أولا: ان الدول التي راعت من الاشتراكية والرأسمالية جوهر كل منهما ( مثل اوروبا الشمالية) او من يطلق عليها مجموعة دول الرفاه(Welfare state) كانت ضمن الافضل في توزيع الدخل( تراوح مؤشر غيني فيها بين 22 و 27) وهي الافضل في الديمقراطية والاعلى في الاستقرار السياسي، وهو ما يعزز نظرية وليم هالال( (( Halal, William E و الكسندر نيكتين (Nikitin, Alexander ) في دراستهما المنشورة عام 1990 تحت عنوان :
One World: The Coming Synthesis of a New Capitalism and a New Socialism
انه يعني ان تفسير مثل هذه المفارقات في بنية العلاقات الدولية بأبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية (وفي حالاتها السلمية والصراعية) يجب ان يفارق مناهج التحليل التقليدي وبخاصة المنهج التجزيئي(Reductionism) والذهاب الى التفسير الكلاني(Holism) وبخاصة بتقنيات بحثه المتجددة، فالاصولية المنهجية لم تعد قادرة على مجاراة المنحنى السوقي(Logistic Curve ) بخاصة في ظل ايقاعه المتسارع وتداعياته في بنيات مجتمعاتنا التحتية والفوقية معا.
لا شك أن الماركسية فرضت الموضوع الطبقي على الحراك الاجتماعي والسياسي في العالم كله، ولا شك ايضا أن آثام الرأسمالية أكثر من أن تحصى، وقهرها للشعوب وزناها الخارجي لا يستره " بعض" طهرها الداخلي، فاستعمارها لأغلب مناطق العالم لا تشفع له مظاهر ديمقراطيتها الداخلية( وهي ديمقراطية وظيفية ومن ضمن آليات التكيف التي أبى دراويش الماركسية قبولها)، لكن هذه الرأسمالية تتسع على حساب كل الآيديولوجيات والعقائد الأخرى، وهناك رهان من بعض المفكرين على " أنسنتها " كما هو التيار الفكري الآسيوي الجارف( من بيجييان وشينزو آبي)، وهناك من يراهن على تنويعها (دوغين) وهناك من يراهن على نهايتها لكنه لا يعرف شكل النهاية وما بديلها ( واليرستاين) ، وهناك من يراهن على تجددها( وليم هالال)، واننا في طريق المركب الهيجلي (أي بنية تقوم على راسمالية جديدة واشتراكية جديدة ) وهو ما يراهن عليه ( جوزيف ستيجلتز) او بعض منظري الطريق الثالث(أنتوني جدنز)…الخ.
في تقديري " المتواضع والمتهيب" لا أحد يمتلك " القول الفصل ولا الكلمة الأخيرة "، فكل نظرية هي من شخص ما ولغرض ما( روبرت كوكس)، وكيف يكون في التاريخ حقيقة إذا كان للحقيقة تاريخ( فوكو)..فعلى دراويش الماركسية العرب أن لا يكابروا كما يكابر خصومهم ايضا..